قبل شهور، وبمناسبة إعفاء عبد الإله
بنكيران من مهمة رئيس الحكومة المكلف بتشكيلها، كتب الدكتور أحمد الريسوني مقالا يذكر فيه أن "بنكيران لا ينتهي". لكن، بعد أن أنهى بنكيران جميع مهامه الرسمية والحزبية، مغادرا موقعه في رئاسة الحكومة، وفي عضوية البرلمان باستقالته منه، ومن أمانة الحزب بتصويت المجلس الوطني على رفض الولاية الثالثة، ومن رئاسة المجلس الوطني بعد اعتذاره عن ترشيح المجلس له لهذا المنصب، وعن عضوية الأمانة العامة للحزب.. بعد خروجه من كل هذه المهام، طرح سؤال المستقبل السياسي لهذا الزعيم الوطني الكبير، وبدأ البعض يتحدث عن اعتزال سياسي، أو عن موت أو قتل سياسي له من الخارج والداخل أيضا، خصوصا وأنه فقد كل مواقع التأثير التقليدية.
قليلون من التفتوا إلى إمكانية أن يحتفظ الرجل بدور سياسي كبير، وأعانت لحظة الصمت الذي دخل فيها بنكيران الكثير من المراقبين لاستصعاب تصور دور سياسي مستقبلي له، خاصة وأنه معروف بالدفاع عن قضية المشروعية داخل الحزب والرفض العنيد لأي مسعى للانقلاب أو الانزياح عنها.
لكن، بعد خرجته الجمعة في مؤتمر شبيبة
العدالة والتنمية، وبعد توجيهه كلمة قوية وبعث رسائل سياسية مشحونة، ظهر للجميع أن الرجل يمتلك أوراق ضغط كبيرة، وأنه يمثل ضمير حزبه وقوته الضاربة، حتى وهو يختار أن يكون مجرد عضو عادي في حزبه الذي حقق معه الانتصارات الانتخابية الكبيرة.
الجمعة، وفي خرجة مثيرة، انتفض بنكيران، ووجه رسائل لكل مكونات الفعل السياسي، ابتدأها بإعادة تأكيد صيغته في العمل السياسي، تلك الصيغة التي تتأسس على ضرورة التعامل المباشر مع الملك، وبناء العلاقة مع المؤسسة الملكية على قاعدتي الوفاء والنصيحة، مع التمييز بين ما يأتي من الملك وما يمكن أن يأتي من محيطه أو من الجهات التي تستغل اسمه.
خرجة بنكيران كان لها ما يبررها، فقد انتظر أكثر من تسعة أشهر، ومرت أكثر من عشر انتخابات جزئية لم ينجح حزبه فيها إلا بدائرتين كانتا محسومتين له، وبعد أن برزت مؤشرات كثيرة على استهداف حزب العدالة والتنمية ومحاولة التغول عليه، والإعداد المبكر من طرف خصومه لانتخابات 2021، وصناعة رئيس حكومة جديد على عين خصومه وتعبيراتهم داخل مربع القرار.
بنكيران استغل بضعة أحداث، خصت مساعي الأغلبية الحكومة للتغول على حزب العدالة والتنمية في قضية تقاعد البرلمانيين وغيرها، واندلاع الحراك الاجتماعي في أكثر من منطقة، ليوجه رسائل دالة إلى الدولة، ثم قنابل مسيلة للدموع لحليف حزبه، التجمع الوطني للأحرار، محذرا قيادته من الجمع بين المال والسلطة، واستغلال السلطة لتوسيع القاعدة الاقتصادية لرجال الأعمال، مذكرا بهذا الخصوص بأن زواج المال والسلطة يشكل خطرا على البلاد، وأن الحراك الاحتجاجي الاجتماعي الذي يقوم في البلاد في أكثر من منطقة؛ مبرر بمطالبه الاجتماعية، ومبرر أيضا بالسياسة التي لا تضع المواطن وكرامته في صلب اهتماماتها، وأن رجال الأعمال لا يمكن التعويل عليهم لتهدئة الشارع، وإنما السياسيون هم الذين يتحملون مسؤولية تطبيق القرارات الصعبة؛ دون أن يضطروا لوضع الملك في دائرة الحرج مع المجتمع.
رسالة بنكيران التي التقطها الجميع؛ أن حزب العدالة والتنمية قد تلقى ضربات كثيرة، وابتلعها حتى مست صورته لدى الشارع، وفقد جزءا من شعبيته، لكنه، لن يستمر في تلقي الضربات، وأن قضية وجوده في الحكومة أو في قيادته لها ليس ثمنا للتنازلات الكثيرة المطلوبة منه، وأنه في كل لحظة يمكن أن يتخلى عن كل ذلك في سبيل استعادة المبادرة.
الرسالة السياسية التي وجهها بنكيران لخصومه؛ أن حزبه لن يتغير عن عقيدته، وأنه رغم الضربات التي تلقاها قادر على استعادة المبادرة، حتى ولو لم يكن بنكيران على رأسه، بل حتى ولو كان بنكيران مجرد عضو بسيط في التنظيم.. وأنه قادر على إفشال مخططات استهداف حزبه، كما فعل في المرحلة السابقة حين أفشل مشروع الأصالة والمعاصرة التي استثمرت فيه بعض الجهات المؤثرة في القرار السياسي للدولة؛ من أجل أن تصنع حزبا أغلبيا منافسا لحزب العدالة والتنمية.
مؤكد أنه بعد خرجة مؤتمر شبيبة العدالة والتنمية بالمجمع الرياضي (مولاي عبد الله بالرباط)، سيتداعى المراقبون للتساؤل عن إمكانية حصول تنسيق بين بنكيران وسعد الدين العثماني، وما إذا كان الحزب قد اختار أن يدفع ببنكيران ليقوم بوظيفة الردع حتى تستقيم الأغلبية الحكومية على قاعدة الجادة لكن المعطيات المتوفرة لا تدفع بالاقتناع بحصول هذا السيناريو، فالرجل حرص كل الحرص على ألا يفتئت على سلطة التنظيم ومشروعيته، من خلال التذكير في كلمته بأن الأمين العام للحزب هو سعد الدين العثماني، وأنه هو رئيس الحكومة، وأنه أمين عام جميع أعضاء الحزب، بما في ذلك عبد الإله بنكيران. كما حرص على أن يتحدث باسمه، باعتباره مدعوا من قبل شبيبة العدالة والتنمية التي احتفت به وبزعامته، ووجه رسالة أخرى للجميع بأنه لن يبقى في بيته، رغم أن الظرفية السياسية لا تسمح له بالحرية الكاملة في الكلام، وأنه سيجيب دعوة كل الفروع إلى تنظيم لقاءات علنية وعامة معه.
التفسير الذي أميل إليه، أن بنكيران اختار أن يكون موقعه كضمير للحزب، يتحرك من وحي التنبيه إذا وقع الخطر، وإسناد الحكومة ودعمها من موقعه الخاص، وتقوية المواقع التفاوضية لحزب العدالة والتنمية في حال إذا ما وقع الافتئات عليه من طرف خصومه، وتنبيه قيادة الحزب إلى أن حالة الانقسام، ولو في حدودها النفسية، لن تنتهي حتى يأخذ الحزب مساره النضالي المعروف، الذي يتأسس على قاعدة الوفاء للملكية والنصيحة لها، والالتئام مع هموم الجماهير والحرص على كرامة المواطن أولا وقبل كل شيء.
من الممكن أن تثير خرجة بنكيران انزعاج بعض قيادات الحزب الحكومية، كما من الممكن أن ينظر إليها بطريقة مختلفة لتقوية مواقع الحزب وفك الضغط الممارس عليه. لكن في جميع الأحوال، سواء انزعج البعض، أو تفهم البعض الآخر، فالمرجح أن القرار الرسمي للحزب سيتجه إلى اعتبار تصريحات بنكيران تخصه كعضو في الحزب، أو في أحسن الأحوال تعبر عن ضيق قواعد الحزب التي لا ترتاح لكثرة التنازلات، وأن قيادة الحزب لا يمكن لها أن تساير ضغوط مكونات الأغلبية؛ لأن النتيجة يمكن أن تعصف باستقرار الحكومة.
لكن المهم في كل ذلك، ليس هو الانزعاج أو الاستفادة من خرجة بنكيران، وإنما هو إعلان بنكيران بخرجته عن عودته لممارسة السياسة، وعن أسلوبه الجديد الذي سينتهجه في إدارة الصراع، والذي يتأسس على البقاء في درجة عالية من اليقظة السياسية، وبدء مسار استعادة المبادرة، من خلال إعادة صياغة أسلوبه السابق إدارة الصراع، وجعل المواطن وكرامته في قلب الاهتمام، وعدم التسليم أبدا في الحزب، خاصة في المعارك الانتخابية التي تصنع موازين القوى السياسية، وإعادة التأكيد مرة ثانية على أن السياسة لن يكون لها معنى أبدا ما لم تكن انعكاسا للإرادة الشعبية المعبر عنها في الاستحقاقات الانتخابية.