في كل مرحلة من مراحل
الانتخابات البرلمانية
العراقية، تتجدد إشكالية جدوى المشاركة من عدمها، وهل سيشارك العراقيون، وبالذات السنة
العرب، في الانتخابات، أم لا؟
ومن هنا، ومع بدء العد التنازلي
للانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في الثاني عشر من شهر أيار/ مارس القادم، توالت
في الساحة السياسية العديد من المواقف الشرعية والسياسية المؤيدة، أو الرافضة، أو
حتى المُبيِّنة للموقف الشرعي والعقلي من التجربة
الديمقراطية في العراق بعد العام
2003.
ومن المواقف الشرعية والعقلية الأخيرة، ما
ذكره العلامة الشيخ عبد الملك السعدي (من كبار علماء العراق والأنبار)، في بيان صدر
عن مكتبه نهاية الأسبوع الماضي، والذي بين فيه أنه "كان الأولى بالسنة العرب أن
يطالبوا بتعديل نسبتهم المأوية الواقعية لا التي وضعها المحتل، وهي 42 في المئة وليس
20 في المئة، وذلك بإجراء تعداد سكاني تحت مظلة أممية لا عراقية، وعلى الأقل اعتماد
البطاقة التموينية؛ لأن أصواتكم ستكون مغلوبة في مجلس النواب، أو الحكومة وفي جميع
مفاصل الدولة".
وختم السعدي بيانه بالقول: "إن العناصر
التي سمعناها من خلال الإعلام هم العناصر السابقة المشاركة في المجلس والحكومة من بعد
عام 2003م أنفسهم، وقد جُربوا بأنه لا خير مرجوا منهم لثبوت فشلهم وعدم تحقيقهم طموح
الشعب؛ حيث لم يحققوا لهم أبسط ما يحتاجونه من أمور الحياة من رفاه وخدمات؛ لأن همهم
المنصب والحصول على المال، لذلك لا يريدون ترك المجال لغيرهم، و(لا يلدغ المؤمن من
جحر واحد مرتين)، (ومن جرب المجرب حلُّت به الندامة)".
ومقابل هذا البيان الذي يفهم منه عدم
جدوى المشاركة، هنالك دعوات جادة من غالبية السنة المشاركين في العملية السياسية
بضرورة المشاركة في الانتخابات بحجة التخفيف من الضرر الواقع - والمتوقع - على أبناء
المحافظات التي دمرت نتيجة الإرهاب الرسمي وغير الرسمي.
المُتَفَحِّص لمجمل الساحة العراقية اليوم،
يجد أن هنالك نقمة شعبية، وعزوفا حقيقيا عن تحديث البطاقة الانتخابية. وقد أخبرني أحد
كبار النواب العراقيين من المرشحين للانتخابات القادمة – قبل يومين - أن نسبة تحديث
البيانات الانتخابية منخفضة جداً، وهي لا تتعدى العشرة في المئة، في جنوب البلاد، ومثلها
في بغداد، وهى أدنى من ذلك (ربما تصل إلى 5 في المئة) في المدن الشرقية والشمالية والغربية.
ورغم هذا الوضع غير الصحي، نجد أن هنالك إصراراً حكومياً على ضرورة إجراء الانتخابات
في موعدها، رغم بعض الدعوات المطالبة بالتأجيل. وقد استعانت الأطراف الفاعلة
بالبرلمان العراقي بالمحكمة الاتحادية (المستعدة لتقديم التفسيرات القانونية وفقاً
للمزاج الحكومي سواء بالسلب، أو الإيجاب) التي أكدت على ضرورة المضي في الانتخابات
في موعدها الدستوري، بحسب المادة (56) من الدستور.
عموما، إن الغاية من الانتخابات هي المضي
بالبلد إلى الضفة الآمنة، أو مرحلة بناء الدولة، وهذه غاية نبيلة ينبغي توحيد كافة
الجهود الصادقة للوصول إليها. لكن في المقابل، هل يمكن الوصول لهذه المرحلة عبر أحزاب
وشخصيات أثبتت التجارب أن غالبيتهم فشلوا في تقديم الأصلح، أو الأفضل للعراق؟ وعليه،
هل الانتخابات في الحالة العراقية هي مجرد فرض ديمقراطي يجب على المواطنين الذهاب إليه؟
أم أن أصواتهم أمانة ينبغي أن يحافظوا عليها، وأن يعطوها لمستحقيها، وإلا فالمقاطعة
هي الأولى والأسلم؟
إن السعي لفرض، أو لتزيين الديمقراطية في
العراق عبر الإعلام والخطابات غير المطابقة للواقع، لا يمكن أن تكون وسيلة إقناع للشعب؛
لأن الديمقراطية ليست كذبة، وإنما هي مجموعة مفاهيم مليئة بروح الحرية واحترام الإنسان
وفكره، وعدم الاستخفاف بحياته وممتلكاته وتطلعاته. أما محاولة طمس هذه المفاهيم بحجة
الديمقراطية، فهي كفر بكل تلك القيم النبيلة التي يفترض بناء دولة المواطنة على أساسها.
الديمقراطية العراقية تُدار اليوم بموجب
أدوات تابعة للأطراف الفاعلة في العملية السياسية، وتسعى للمضي في طريق الانتخابات
بالترغيب مرة، وبالترهيب مرات ومرات. وهنا لا يمكننا تغافل دور الحلقة الأبرز في
الانتخابات، وهي "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات". ورغم اسمها
الرسمي الصريح، إلا أنها مكونة من الأطراف الفاعلة في العملية السياسية. لذلك، فإن
التزوير متوقع بشكل كبير جداُ، تماماً كما حصل في الانتخابات السابقة، وهذا ما
أكدته قيادات كبيرة هي جزء من اللعبة السياسية الحالية.
والأهم من ذلك هو المواطن النَّاخِب (وهو
ركن أساسي من أركان العملية الانتخابية)؛ كيف يمكن أن يدلي بصوته مع غياب الأرضية
الصالحة لإجراء الانتخابات لمواطنين لا يمتلكون سقفاً آمناً؟ وهذا حال غالبية
أهالي مدن الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى، وكذلك عدم قناعته بالأداء العام
للحكومة والبرلمان!
التجربة الديمقراطية العراقية لم تنضج
بعد، بل أثبتت التجارب السابقة أنها غير موجودة أصلاً، ولم تدخل للحياة السياسية
إلا عبر الشعارات والإعلام الرسمي فقط، بينما في الواقع نحن أمام تجربة اللادولة؛
التي لم ترتق بعد لأبجديات التجربة الديمقراطية!