من القضايا المهمة التي يجب أن نتوقف عندها بالاعتبار الواجب؛ هي تلك الظواهر التي تتعلق بدراسة المرحلة الانتقالية ومقتضياتها. كل الثورات حينما تحدث تعقبها أحداث وظروف تفرض هذا التعامل الانتقالي مع حدث كبير مثل
الثورة، حدث استثنائي يتعلق بما يمكن تسميته بإدارة الاستثناء. دراسة المراحل الانتقالية لها من الأصول المرعية والمعتبرة، ذلك أن هذه المراحل تتعلق بمسائل كثيرة؛ مثل الدستور الانتقالي ومقتضيات التوافق السياسي والتغيرات المؤسسية والمسائل التي تتعلق بإدارة القضايا الأساسية التي تتعلق بمعاش الناس في أوقات الثورات.
والحديث عن إدارة المرحلة الانتقالية بعد الثورات يتطلب ما يسمى "التفكير خارج الصندوق"، بمعنى أن تكون هناك أدوات ووسائل وآليات في مراحل الانتقال تشكل الوضع الاستثنائي؛ لأن المرحلة الانتقالية بحكم التعريف هي حالة استثنائية ومن ثم فإنها تتطلب هذا التفكير الاستثنائي، وفي المراحل الانتقالية تُسرَق الثورات وتُركَب ويُلتَف حولها وتنتكس. فالمرحلة الانتقالية ليست مرحلة واصلة بين مرحلتين فحسب، أو مرحلة تسيير أعمال كما أشاع المجلس العسكري بين الكافة، بل إن المرحلة الانتقالية هي انطلاقة إلى بناء جديد وقدرة على تكوين تعاقد سياسي ومجتمعي جديد في إطار استراتيجية، وفي إطار انتقال وخطوات تدريجية متراكمة يمكن أن تُحدَث أثرا في عملية الإصلاح الجذري في المجتمع. إذن لا بد أن تكون المراحل الانتقالية مراحل مخططة ومدبَرة، وتقوم على الوصل بين الاستراتيجي والمرحلي أو الخُططي.
علم إدارة المرحلة الانتقالية إذا افتقده هؤلاء الذين قاموا بالثورة أو عليها، وهؤلاء الذين كانوا يؤمنون بالثورة من علماء السياسة، وجد الناس أنفسهم يخرجون من ذهول العلماء - كما أكدنا في المقالة السابقة - إلى حالة من عجز العلماء عن إدراك طبيعة الأوضاع الانتقالية، والتعامل معها التعامل المطلوب بالشكل الذي يؤدي إلى الوصول إلى كل ما يتعلق بالأهداف الكلية للثورة من أقصر طريق وبأقل تكلفة وبأعظم استثمار ممكن. إنها قوانين الانتقال حينما تمارس ضمن منظومة وعي الانتقال وسعي الانتقال، هذه المسألة ليست بالهينة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نمر عليها مرور الكرام.. نقول ومنذ البداية إن الثورات تسرق وتخطف وتحاصر وتنحرف ويستولى عليها.. كل ذلك يتم في المراحل الانتقالية، فإن لم نكن على أهبة الاستعداد لمواجهة كل تلك المتطلبات التي تتعلق بالمراحل الانتقالية، فإن الانتقال سيتم بصورة تلقائية وربما عشوائية؛ ينفذ من خلالها أصحاب الثورة المضادة ليتعرفوا عن كيف يتسللون حتى يمكنهم تطويق الثورة وأهلها.
بين ذهول العلماء وعجزهم عن إبداع تصورات بإدارة المرحلة الانتقالية والتعامل مع القضايا الحقيقية، أطلت برأسها الثورة المضادة، فإن الثورات لا تنتظر أهلها إلا إذا كانوا واعين بكل مقتضيات استمرارها وبكل عناصر استهدافها وبكل قصور يمكن أن يأتي عليها، والوعي بكل التحديات التي تتوالى على أهلها واحدا تلو الآخر. فتحدي الثورة يعني تحدي التغيير الكبير، فإذا لم تكن هناك قيادة حقيقية تقود هذا التغيير، ووعي بكل أصول ومساحات التغيير المطلوب وأولوياته، فإن ذلك غالبا سيعطي الفرصة لكل هؤلاء الذي يتربصون بالثورة ويتربصون بأهلها وبأهدافها، معادلة لا يمكن إنكارها، بل لا يجوز إنكارها، ذلك أن التغافل عن كل هذه الأمور يجعل الثورة في مأزق كبير لا تستطيع أن تمر منه من غير إعداد كبير.
هذا هو الأمر الذي يتعلق بمعادلة الخروج من حال الاستثناء إلى حال الاستمرار والاستقرار "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة". وهنا، فإن الثورة في حال الانتقال تتطلب هذين الأمرين الإرادة والإدارة، لا ثورة بلا إرادة ولا عمل ثوري بلا إدارة، والإرادة والإدارة لا بد أن يستندا إلى عُدة.. معادلة بسيطة ولكنها تتطلب إدراكا عميقا وعملا رصينا؛ إن لم نتنبه إليه وإلى خطورته وضرورته ظل هؤلاء الذين يتربصون بالثورة يجدون من المنافذ والمسارب ما يستطيعون فيه أن يستدركوا ما فاتهم، وأن يطوقوا حال الثورة فيجعلوها عملا عابرا يحاولون وأده من كل طريق، ويؤسسون لحال الإجهاض عليها والانقضاض.
وما حدث في الثورة
المصرية هو حالة عشوائية من إدارة المرحلة الانتقالية بالقطعة وحالة من صناعة الفوضى وصناعة الفُرقة، وذلك على خلاف ما يجب في شأن المرحلة الانتقالية من ضرورة أن تتواكب معها رؤية استراتيجية لديها القدرة على وصل مرحلة بمرحلة والانتقال من وضع غير مرغوب إلى وضع مرغوب ومقصود له سمات وصفات محددة، وكأن المرحلة الانتقالية هي مقارنة بين فترة وأخرى. فالمواطن المصري يحدث في ذهنه دائما حالة من المقارنة ما بين مرحلة مضت ومرحلة أتت مع وجود ما يسمى بثورة التوقعات. فشل الجميع في إدارة ثورة التوقعات، التي كانت كفيلة بتمكين الظهير الشعبي للثورة، وهو أمر لو أُحسن استثماره لحمى الثورة الحقيقية وواجه الثورة المضادة، وحقق المقصد من وجود حاضنة شعبية.
وهنا، فإنه في حقيقة الأمر لا بد وأن نتحدث عن تقاطع ثورات ثلاث في داخل المرحلة الانتقالية: الثورة الحقيقية ومتطلباتها، والثورة المضادة وتربصاتها، وثورة التوقعات التي ترتبط بعموم الناس والمتشوقين إلى تحقيق آمالهم وآمالها.. ثورات ثلاث تتقاطع بشدة، فإن لم يكن هناك وعي شديد وعمل جديد وسعي سديد يتعلق بتصورات حول حماية الثورة، والدخول في معركة مبكرة مع قوى الثورة المضادة وإدارة ثورة التوقعات ومتطلبات الناس والتعامل مع توقعاتهم وترقية معاشهم باعتبارها آمال مرغوبة ومطالب مشروعة، فإننا سنجد أن كل هذه الأمور تنقلب على ثورة تصير فريسة لغفلة أهلها وتربص أعدائها وإجهاد ظهيرها الشعبي من خلال مطالبه وآماله. هل استطاع كل هؤلاء، بمن فيهم من توفروا من علماء سياسة وسياسيين وباحثين، دراسة هذه الظواهر ووعوا بمتطلبات هذه المرحلة الانتقالية ومستلزماتها؟
مرة أخرى، لم تواكب
العلوم السياسية ولا علماء السياسة حدث الثورة في جميع مراحله، لا في بكورة التكوين ولا أثناء حدوثه ولا في مراحله الانتقالية حتى بعد حدوثه. فالأمر لم يقتصر على عدم التنبؤ بالثورة فحسب، ولكنه كذلك كان يكشف عن حالة من عدم الجاهزية والفطنة لما تقتضيه من مراحل الانتقال من تحديد القضايا بدقة والتعامل معها في وقتها بما تستأهله من أفعال وقرارات ومواقف.
ومرة أخرى، عجز العلماء والباحثون عن تقديم إجابات لأسئلة التغيير، ولم يستطع هؤلاء مجاراة ومواكبة حركة الشباب وما يمثلونه من جيل جديد والتكيف مع طموحاتهم، فظل هؤلاء أسرى عجزهم وعدم تجهزهم لإدارة الاستثناء وإدارة الانتقال، وتأسيس رؤى تتعلق بإمكانات التوافق السياسي، وتفادي كل ما يتعلق بحالات التنازع والاستقطاب وإدارة التعدد والتنوع والاختلاف. قضايا بعضها من بعض، اقترن فيها حال الذهول الأول من العلماء إلى حال من العجز منهم في إدراك مراحل الانتقال وإدارة الاستثناء.