يتبع الرئيس الفلسطيني
منهجا غريبا هذه الأيام، فمنذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس عاصمة
موحدة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية للمدينة، أعلن عباس رفضه التام
لذلك، وأبلغ الأمريكان وبعض العرب الذين يسوقون للموقف الأمريكي؛ إصراره على رفض
صفقة القرن التي تتضمن القدس وغيرها من قضايا الحل النهائي.
ورفض عباس الضغوط والتلويح
له باستبداله بمحمد دحلان، كما رفض في المقابل الإغراءات المالية من السعودية للموافقة
على الموقف الأمريكي من القدس، متبعا بذلك خطى سلفه ياسر عرفات. وما كان لهذا
الموقف أن يكون لولا إدراك عباس بأن الموافقة على الموقف الأمريكي ستدق مسمارا في
نعشه؛ لأن هذه القضية لها قداسة خاصة لدى عموم العرب والمسلمين، ويمكن أن تؤدي
للإطاحة بأي زعيم في حال تخلى عنها.
مهاجمة الخطة
ولم يقف عباس عند ذلك، فقد
أعلن أن واشنطن لم تعد وسيطا نزيها في المفاوضات، ولجأ إلى الدعوة لمؤتمر دولي
للسلام في منتصف 2018 بمشاركة أوروبا وروسيا، على غرار مؤتمر باريس للسلام، وذلك
في كلمته في مجلس الأمن الدولي في 20 شباط/ فبراير 2018. واعتبر أن واشنطن خرقت
تعهداتها بشأن القدس ولا يمكنها أو غيرها لوحدها فرض حل للسلام، معربا عن
الاستعداد لبدء مفاوضات مع الاحتلال، دون أن يطالب بوقف الاستيطان الذي سبق وعطل
المفاوضات لسنين عديدة!
يشعر عباس بأن صفقة القرن ستؤدي إلى إنهاء القضية والقضاء على دور منظمة التحرير، وعلى دوره شخصيا في الإطار الرسمي والشعبي، كما شعر أن السعودية ومصر طعنتاه بالظهر
واستنجد عباس بالمبادرة
العربية التي تدعو لحل متفق عليه لقضية اللاجئين وفق القرار 194، والالتزام
بالشرعية الدولية التي لا تقر الاستيطان، فضلا عن قيام دولة فلسطينية تعترف
بإسرائيل.
ويشعر عباس بأن صفقة القرن
ستؤدي إلى إنهاء القضية والقضاء على دور منظمة التحرير، وعلى دوره شخصيا في الإطار
الرسمي والشعبي، كما شعر أن السعودية ومصر طعنتاه بالظهر حينما دعمتا خطة ترامب.
إلا أن الأهم من كل هذا أنه
لا يمكن تطبيق الخطة الأمريكية على الأرض، وأن الأطراف
العربية مهما دعمته فلن تتمكن من منع ردود الفعل الشعبية عليه بعد موافقته على
الخطة، لا سيما وأن
حماس غريمه الأول فلسطينيا لن ترحمه وستشن عليه حربا سياسية
وإعلامية، وتتهمه بالتفريط بالقدس ما يؤدي لسقوط شرعيته في الأراضي الفلسطينية.
إن تخوف عباس من التبعة
الثقيلة للخطة في ظل ضعفه شعبيا دفعه لرفضها متمترسا بالموقف الشعبي، وربما الفصائلي
الرافض لها. أما في حالة تساوقه معه، فسيكون ذلك مقدمة لسقوطه شعبيا وضعفه أمام
الفلسطينيين.
محاربة حماس
ولكن هذا التفسير وحده
لموقف عباس من الصفقة قد لا يصمد أمام تشدده مع حماس ومناصبتها العداء وعرقلة
الحوار معها ما لم تتنازل عن سلاحها بغزة.
فالموقفان لا ينعزلان عن
سعي عباس لتسويق نفسه كقائد فلسطيني يحكم كل الفلسطينيين؛ في وجه التشكيك
الإسرائيلي به وبسلطته تحت حجة عدم سيطرته على قطاع غزة الواقعة تحت حكم حماس.
كما أنه يقف بشدة ضد عمليات
المقاومة ويحاربها بشراسة في مناطق سيطرته بالضفة، وينسق أمنيا مع الاحتلال
لمنعها، وينفذ سلسلة من الإجراءات الأمنية لوقفها؛ لأنها تضعف موقفه أمام
الإسرائيليين وتتعارض مع مساعيه لإنجاز عملية تسوية مع الإسرائيليين.
الموقفان لا ينعزلان عن سعي عباس لتسويق نفسه كقائد فلسطيني يحكم كل الفلسطينيين؛ في وجه التشكيك الإسرائيلي به وبسلطته
وبالإضافة للموقف
الإسرائيلي المتشدد من عملية التسوية، فإن عباس يصر على أن يضرب عرض الحائط
بالموقف الفلسطيني طالما أنه يرضي الإسرائيليين أمنيا. وهذا المسلك الرافض
للمقاومة والانتفاضة الشعبية لا يؤدي في النهاية للحفاظ على الثوابت الفلسطيني،
خصوصا مع استمرار عباس في الرفض القاطع للتعاون مع حماس من أجل تقوية موقفه
التفاوضي، كما كان يفعل سلفه عرفات عقب انتفاضة 2000. بل وعلى العكس من ذلك، يرى
عباس أن تحقيق المقاومة لنجاحات على الأرض؛ من خلال عمليات موجعة للاحتلال ستشكل
تهديدا حقيقيا لكل من يعمل مع الاحتلال ويسوق له.
وهو في رفضه لخطة ترامب
إنما يحاول الحفاظ على نفسه ويحول دون سقوطه شعبيا إن هو قبل بها. ويتخوف عباس في
هذا السياق؛ من استثمار حماس لفشل عملية التسوية لتقوية موقفها شعبيا، وتشكيل
تهديد حقيقي للسلطة الفلسطينية التي ستظهر بمظهر ضعيف وهش إن هي قبلت بالخطة. وفي
هذا استمرار للخوف من حماس كبديل له، وهو الذي يدفعه لرفض الانتخابات البلدية
والتشريعية والرئاسية.
هذا المسلك الرافض للمقاومة والانتفاضة الشعبية لا يؤدي في النهاية للحفاظ على الثوابت الفلسطيني، خصوصا مع استمرار عباس في الرفض القاطع للتعاون مع حماس
معادلة مركبة
لعباس
وفي ظل هذه الحسابات
المركبة، يمكن فهم موقف عباس من صفقة ترامب واستمراره في حصار وتجويع أهل غزة
لإضعاف حماس سياسيا وشعبيا وجعلها تستسلم لمطالبه، وخصوصا مطلب نزع سلاحها. هذا
فضلا عن اعتبار آخر، حيث يريد أن يرمي عباس بكرة اللهب في غزة بوجه الإسرائيليين
الذين يتخوفون أن يتطور غضب الحصار عليهم، لدرجة أن أحد المحللين الإسرائيليين قال
إن عباس يريد أن يحارب غزة بآخر جندي إسرائيلي!!
ويبدو أن سياسة عباس هذه
محفوفة بالمخاطر، فطالما أنه لا يتمتع بسند شعبي في الأراضي المحتلة، فإن إمكانية
استهدافه تظل قريبة بما في ذلك دعم بديل مثل دحلان ليحل محله.
استمرار معاداة الشعب والادعاء بمواجهة أمريكا وإسرائيل هي سياسة لن يكتب لها النجاح، في ظل انعدام الظهير الشعبي والواقع العربي المتآمر
أما استمراره في التضييق
على حماس فلن يورثه سوى العداوات والسخط المتزايد؛ الذي قد يؤدي لتحركات شعبية ضده
تخلخل حكمة وتضعفه أمام الإسرائيليين وتدفع بدحلان أو غيره بديلا له.
إن استمرار معاداة الشعب
والادعاء بمواجهة أمريكا وإسرائيل هي سياسة لن يكتب لها النجاح، في ظل انعدام
الظهير الشعبي والواقع العربي المتآمر. فهل يغير عباس من سياسته تجاه شعبه لحماية
موقفه السياسي ويتمترس خلف إجماع شعبي في رفض خطة ترامب والتصدي لها؟ لا يبدو ان
تاريخ الرجل وسياساته تسير به في هذا الاتجاه، الأمر الذي يعني أنه قد يدفع ثمنا
غاليا لذلك!!