كلما رأيت زعيم بلد يتكبَّر، ويتجبَّر، هاتفني أبو الطيب المتنبي من باب جبر الخاطر:
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى / كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلابَقوا
من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ / حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ
هل عرف التاريخ إمبراطورية أكبر من الرومانية؟ كيف تفتت إلى دويلات؟ توارث الحكم فيها عباقرة في شؤون الحكم، وأشخاص مثل كاليغولا، الذي اعتبره المؤرخون الأوروبيين أبشع طاغية عبر التاريخ (إلى أن خزاهم الله بهتلر). وكان الغرور قد بلغ به مرتبة أعلن فيها أنه إله الأرض والسماوات، ثم مات مقتولا على يد كاسيوس شاريا.
بعدها آلت مقاليد الأمور إلى كلوديو، الذي اشتهر بالبلاهة الشديدة، وكانت العامة تستخدم اسمه رمزا للسفه والبله، ووقع في غرام نجمة المجتمع الأرستقراطي، أغربينيا، التي قتلته بالسم في نهاية الأمر، ليؤول كرسي
الإمبراطورية لابنها نيرون.. نيرون ابن أخ السفاح كاليغولا، رغم أنه لم يكن الوريث الشرعي للحكم.
صار نيرون إمبراطورا وهو في السادسة عشر، فغرق في عالم السفه والمجون، بدرجة أنه كان ينزل الشوارع متنكرا لممارسة السرقة وقطع الطرق، ثم تحول إلى قاتل سفاح وكانت من بين ضحاياه أمه وزوجته.
وفي ذات شطحة، قرر نيرون أن يخلد ذكراه في أضابير التاريخ، كصاحب بصمة في معمار روما. فأحرق المدينة ليعيد بناءها وفق تصوره، فاحترق الآلاف من سكان روما، ولما أحس بالغضب الشعبي، قام بتلبيس أصحاب الديانة الجديدة نسبيا (المسيحية) تهمة إشعال الحرائق، وشجع الغوغاء على الفتك بآلاف المسيحيين، وكان من بينهم "القديسان" بولس وبطرس.
عمت الفوضى والاضطرابات في روما ومحطيها الجغرافي، فتجاسر مجلس الشيوخ الروماني وأعلن أن نيرون "عدو الشعب"، فما كان من التعيس إلا أن انتحر.
في أمر أن الطواغيت أمثال نيرون الى زوال، ثم "ينعدل" الحال، يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش:
وضعوا على فمه السلاسل / ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا: أن تقاتل
أخذوا طعامه والملابس والبيارق
ورموه في زنزانة الموتى
وقالوا: أنت سارق
طردوه من كل المرافئ/ أخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا: أنت لاجئ
يادامي العينين والكفين/ إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية / ولازرد السلاسل
نيرون مات، ولم تمت روما... بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف/ ستملأ الوادي سنابل
وأين الإمبراطورية الإسلامية من المحيط الهادئ الى الأطلنطي؟ وأين نحن من تباهي هارون الرشيد عندما رأى غيمة ترحل من فوق بغداد: اذهبي حيث شئتِ، فإن خراجك سيأتيني؟ ضاعت الإمبراطورية شذر مذر، ما لم تكن تعتقد أن تنظيم الدولة يعيد تأسيسها في زاوية ضيقة من سوريا.
وتفككت الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس (بريطانيا) التي تسمّت بالعظمى؛ لأنها كانت تحكم معظم الشعوب في جميع القارات، حتى أسكتلندا، والتي هي من الناحية الجغرافية امتداد لإنجلترا، على وشك الانفصال من بريطانيا، المملكة التي صارت "متحدة" مجازا.. فأهل ويلز أيضا يتململون، وكاثوليك إيرلندا الشمالية قبلوا التعايش مع ما تبقى من مكونات بريطانيا العظمى على مضض، بعد طويل احتراب وخراب.
عندما وصل حكام السودان الحاليون الى كراسي الحكم على صهوات الدبابات والمجنزرات، أسعدهم وغرَّهم أنهم لم يجدوا مقاومة تذكر، فطرحوا شعارات داعشية، مؤدّاها أنهم سيحكمون العالم، وكان من أكثر أقوالهم شطحاً أن "أمريكا دنا عذابها" على أيديهم.
وأعتقد أن أمريكا تشهد اليوم دنو عذابها، ولكن ليس على يد السودان، بل لأن الأمريكان أنفسهم يخربون بيوتهم بأيديهم، فكان أن اختاروا دونالد أبو جهل ترامب رئيسا، فصاروا بحاجة الى الدعاء الإسلامي: اللهم لا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا.
(سئل الرئيس السوداني عمر البشير، عن طرفة سياسية أضحكته، تتهكم على نظام حكمه، فقال إنها تحكي عن خطيب في مسجد دعا الله أن لا يسلط "علينا من لا يخافك ولا يرحمنا"، فقاطعه أحد المصلين: هو سلط وخلص، اسأله أن "يرفعه عنا").
تناولت في آخر مقالين لي في "عربي21"، نماذج لجرائم قتل واغتصاب بشعة "بالجملة" شهدتها الولايات المتحدة خلال سنوات قليلة، وكان قصدي من وراء ذلك ان ألمِّح إلى أن نسيج المجتمع الأمريكي تهلهل وتخلخل، ومن ثم صار فاقدا لبوصلته الأخلاقية، ومن ثم أيضا صوّت الملايين لصالح ترامب، وما كانت للرجل بضاعة تستحق الشراء، سوى شعارات غوغائية، فهل من العسف وصف من انحازوا الى ترامب خلال معركة الانتخابات الرئاسية بأنهم غوغائيون، بل وعنصريون استهوتهم كلماته النارية الاستخفافية بالشعوب الأخرى؟
والسوس لا ينخر في دولة ما، إلا بتعرض النسيج الاجتماعي للشعب للهلهلة، فهذا أمر ليس بمقدور المباحث الفدرالية او المخابرات المركزية او حتى البنك المركزي معالجته، ثم يأتي رئيس مثل ترامب (هو تجسيد لمنظومة لا أخلاقية)، لينقض ما تبقى من غزل ذلك النسيج.
وترامب لا يقوم فقط بتسميد نبت الجريمة الفارع أصلا، بالانحياز لأغنياء بلاده وجعل الفقراء أكثر فقرا، وبالتالي أكثر ميلا لارتكاب جرائم السرقة وتعاطي المخدرات والاتجار فيها، ولكنه برع في تحويل أصدقاء بلاده إلى خصوم- الدول الأوربية نموذجا.
وبعد أن كانت الولايات المتحدة البلطجي الوحيد للنظام العالمي الجديد لنحو ثلاثة عقود، صارت عاجزة اليوم عن التصدي لروسيا، التي تتدخل في الانتخابات الأمريكية والألمانية، وصارت اللاعب الأكبر في الشرق الأوسط وآسيا، وهما ميدانان كانت واشنطن تمارس فيهما لعبة الشطرنج.
وضاعت جهود الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، ومن تلوه في كرسي الرئاسة الامريكية، في تطبيع العلاقات مع الصين، بعد أن أعلن ترامب أنه سيقلم أظافر الصين الاقتصادية، بإجراءات تغلق الأسواق الأمريكية أمامها، بينما الصين تتمدد في الاتجاهات الأربعة في قارة المستقبل (أفريقيا) بالاستثمارات والرشى.
ومن حسن حظ البشرية أن ينكمش دور واشنطن في الساحة الدولية، في ظروف لن تتمكن فيها لا موسكو ولا بكين من ملء "الفراغ" الناجم عن الغياب الأمريكي، فلا يبقى أمام هذا الثالوث إلا التناحر في ما بينهم، مما سيزيدهم ضعفا على ضعف.. إنه سميع مجيب.
ويحضرني هنا إنشاد لطائفة الختمية في السودان يختتمون به حلقات "الذكر":
واشغل أعداي بأنفسهم/ وابليهم ربي بالمرج