مجمل ما قاله: "دعوني أعيش"!
فهل يعقل أن تكون هذه كل أماني مواطن بمصر بعد ثورة بحسب رأينا، وبعد ثورتين بحسب رأيه هو؟!
ليس في نيتي الشماتة في الدكتور حازم عبد العظيم، الذي تلقى تهديدات تجاوزته إلى أسرته، وكل ما فعله واستحق عليه التهديد، هو أنه كتب "بوست"، حيث كان قد تلقى تحذيراً في البداية من مغبة الكلام فصمت، وعندما استمع إلى عبد الفتاح
السيسي في مقابلته مع "ساندرا نشأت" يطلب من الناس أن تتكلم وتقول رأيها بحرية، كان التهديد أكثر وضوحا، وبشكل لم نسمع عنه ولو في أيام مبارك، فقد كانت أطراف في النظام يمكن أن تنكل بالمعارض، دون أن تظهر في الصورة، ليظل سنوات يبحث عن الدليل، حتى كتبت ذات مرة مقالاً نشرته جريدة "العربي" عنوانه: "من قرص أذني"؟!
الدوافع وراء عدم شماتتي أن حازم عبد العظيم، من الذين فعلوا السوء بجهالة ثم تابوا من قريب، وقد كانت الدنيا مفتوحة أمامه ليركض فيها ركض الوحوش في البرية، باعتباره من المقربين من المرحلة، لكن بعد أن ذهبت السكرة وحلت الفكرة، عاد إلى صفوف
الثورة، ومارس المعارضة لهذا الحكم المتغلب!
الدافع الثاني وراء عدم الشماتة، أننا في مواجهة فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منا خاصة، فبدا للجميع أن السيسي "كأس وداير"، وكأنه عقاب حل بنا، وكان يمكن لنا أن نترك له الجمل بما حمل، لولا أن كل يوم يقضيه في الحكم هو خسارة على الوطن حاضراً ومستقبلاً، حتى بتنا نخشى معه على استمرار الوطن عندما يغادر، اليوم أو غداً، وسواء بقرار ثوري، أو بتدخل ملك الموت!
حازم عبد العظيم ومن معه، هم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فبعد أن كانت أحلامنا في وطن أكثر عدلاً، وأكثر نضارة، أصبحت كل الأحلام مختزلة في مجرد العيش: "دعوني أعيش"، وتكمن الأزمة في أن البعض غلبت عليهم شقوتهم، فلم يكن يعنيهم سوى أن يسقط حكم
الإخوان، غير مدركين لعواقب الأمور، فلم يكن الحكم العسكري اكتشافاً. فقد عرفت
مصر هذا الحكم منذ حركة ضباط الجيش في سنة 1952، لكن مما يؤسف له، أن الذين تصدروا المشهد بعد الثورة، كانوا يعانون ضحالة سياسية، ولو كانت الأمور مستقيمة لكان دورهم في مؤخرة الصفوف!
ومما يؤسف أن الذين عاشوا التجربة الأليمة، وكانوا من ضحاياها من لم يستفيدوا منها، وانطلقوا يظنون أن العسكر يمكن أن يحموا الشرعية، وأن قيادات الجيش الذين صنعهم مبارك على عينه، هم مع إرادة الجماهير، وأن "الحداية يمكن أن تحدف كتاكيت"، وأعني بهم جماعة الإخوان المسلمين، الذين كانوا ضحايا وجناة في الانقلاب الأول، وخرجوا من التجربة بلا أي دروس، ودلالة هذا أنهم وثقوا في عبد الفتاح السيسي ثقة عمياء بلا ضرورة موضوعية، ولم يكونوا بحاجة إلى دروس في الحكم بقدر حاجتهم أن يسترجعوا تاريخهم هم ويستوعبوه جيداً.
لم أكن أقرأ الكف، أو أضرب الودع، عندما حذرت من الانقلاب على المسار الديمقراطي، واستدعاء الجيش، وكنت أقف في خندق المعارضة للإخوان تنظيماً وحكماً، غاية ما في الأمر أنني قرأت التاريخ، فأدركت أن المعارضة تتصرف كالذي أراد أن يغيظ زوجته فخصى نفسه!
وكان ما يحدث هو صورة "طبق الأصل" مما حدث قبل ذلك، فقد تغير فقط من يمثل الأغلبية، في الأولى كان "الوفد" وفي الثانية كان "الإخوان"، وجماعة الإخوان ومعها النخبة السياسية والفكرية ومن "عباس العقاد" إلى "طه حسين"، ومن "السنهوري" إلى "سليمان حافظ"، انحازت للاستبداد للتخلص من "الوفد"، فدفع الجميع الثمن، ودفعته مصر غالياً، ولا تزال تدفع فاتورته حتى الآن!
وفي التجربة الحالية، كان خيار النخبة بأحزابها هو الانحياز للاستبداد نكاية في الإخوان. والفارق هنا أن النخبة الحالية أقل إيماناً بالديمقراطية من نخبة 1952. لكن في المقابل، فإن النخبة القديمة لم تكن لديها تجربة تكشف خطورة الحكم العسكري، كالنخبة التي بين ظهرانينا، لكن هل تمتلك النخبة الحالية الوعي فعلا؟!.. وهل المشكلة في نقص الإدراك، أم أنها نخبة مريضة ليست محكومة بقيم وتفتقد إلى أي درجة من درجات السلامة النفسية؟!
أدهشني في البداية موقف الدكتور محمد البرادعي، عندما كان الثوار يخرجون للشوارع يهتفون بسقوط حكم العسكر، بعد أن اكتشفنا أن المشير محمد حسين طنطاوي طامع في الحكم ومعادٍ للثورة، ففي هذا الوقت خرج علينا بتصريح غريب يدعو فيه إلى بقاء المجلس العسكري لسنتين في الحكم، وهو يعلم أن بقاءه سيدفعه لترتيب أوضاعه والاستمرار من وضع مؤقت إلى وضع دائم!
كنت وقتها ممن يحسنون الظن به، فقلت ربما لا يدرك تحديات المرحلة، لكني اكتشفت أنه ينتقم لنفسه، وعلى طريقة عليّ وعلى أعدائي، عندما تم تجاوزه كبديل لمبارك، وظهر على حقيقته بعد ذلك منذ آذار/ مارس 2013، عندما تم الجهر بالسوء من القول، ودعوة الجيش عيانا بياناً للتدخل وإسقاط الحكم المنتخب!
يقولون: "الغرض مرض" وهذا الغرض هو المسؤول عن التصورات الحالمة عندما اعتقد القوم أن الجيش سيقضي على الإخوان ثم يسلمهم السلطة، ولم يكن لديهم مانع من ذلك، لأنهم لا يؤمنون حقاً بالديمقراطية وقواعدها، فإرادة الشعب إن لم تأت بهم، فهي إرادة لشعب مغيب.
ولم يكن الأمر عندي على هذا النحو في البداية، فقد كنت أعتقد أنهم مغرر بهم، ومن ثم فقد أطلقت ندائي إلى "أولادي المغرر بيهم"، وقلت إنهم سيندمون في وقت لا يفيد فيه الندم!
كانت الأحلام أن ميدان التحرير موجود، يمكنهم أن يذهبوا إليه في أي وقت، وكان رأيي مبكراً أنهم لن يُمكنوا من الوصول إليه، ولم أكن في هذا أقرأ الفنجان، أو أعلم الغيب، لكني ومن واقع التجربة الأولى للانقلاب العسكري، استلهمت الدرس، ثم كان انحيازي للديمقراطية وقيمها حائلا دون أن أبتلع الطعم الذي ابتلعه الكثيرون، قبل أن تصبح كل الأحلام مختزلة في مطلب "دعوني أعيش"!
كنت مع ضرورة خوض الانتخابات البرلمانية بقوة، وبتحالفات بين القوى المدنية وبعض الفصائل الإسلامية يمكن تشكيل الأغلبية في البرلمان، ويمكننا ساعتها تعديل الدستور، لنسحب من صلاحيات رئيس الجمهورية بالقدر الذي يرضي غرور البعض، ثم ننتظر حتى نهاية الدورة فيكون الإجماع على مرشح للقوى المدنية في مواجهة المرشح الإخواني، ولم يكن إسقاطه يحتاج لمعجزة!
كانت الأحلام سقفها السماء، لتنتهي الآن، فيصح منتهى ما نحلم به هو: "دعوني أعيش"!
درس قاس ولكن في الوقت الضائع!