اقتربت
الانتخابات البلدية، وبدأت حدة التوتر تغلب على الساحة السياسية في
تونس.. حدة تظهر جلية في نقاشات نواب البرلمان، التي كادت تتحول عراكا بالأيدي، فضلا عن اللغة الخشنة، التي لجأ إليها عدد من النواب تجاه بعضهم البعض، وما وجهه نواب من المعارضة من قول غليظ لرئيس الحكومة، وهو ما أثار جدلا واسعا في فضاءات التواصل الاجتماعي، التي باتت أوسع ساحة للجدال السياسي في تونس، عن طبيعة الديمقراطية التونسية وعن مستقبل البلاد في ظل عودة مناخ التشنج.
إذ يحتد الجدل هذه الأيام بين التونسيين، نوابا وسياسيين ومواطنين مهتمين بالشأن العام، حول العديد من الملفات السياسية الساخنة أهمها الانتخابات البلدية، والتغيير الحكومي، والسعي لاستبدال النظام السياسي من نظام شبه برلماني إلى نظام رئاسي، وتغيير القانون الانتخابي، والتمديد من عدمه لهيئة الحقيقة والكرامة، فضلا عن إصلاح الصناديق الاجتماعية والمفاوضات بين الحكومة ونقابات العمال.
هل تتم الانتخابات البلدية في موعدها؟
بدأ رئيس الحكومة يوسف الشاهد خطابه أمام البرلمان يوم الخميس 22 آذار/ مارس الجاري بسؤال عمن يريد تعطيل الانتخابات البلدية؟.. وبالرغم من أن الرجل لم يقدم جوابا واضحا عمن يريد تأجيل تلك الانتخابات أو يريد منع قيامها أصلا، إلا أنه ذكر غمزا ولمزا ما وصفها بالأحزاب غير الجاهزة للانتخابات، ملمحا لبعض الأحزاب من خارج الائتلاف الحاكم. وتحدثت رئيس الحكومة عن الخائفين من الصندوق والهاربين من حكمه عليهم، في إشارة لبعض الأحزاب والتكتلات الحزبية، التي تريد تأجيل الانتخابات، وتسعى لتغيير الأجندة السياسية للبلاد.
وأكد الشاهد أن الانتخابات ستقع في وقتها المحدد، في السادس من أيار/ مايو القادم، وأنه لا يمكن لأحد أن يغير المواعيد الانتخابية المقررة والمتفق عليها. وهذه أوضح إشارة من أعلى هرم السلطة التنفيذية لوجود قوى تسعى لتأجيل الانتخابات وعرقلة الالتزام بالمواعيد المعلنة.
ويرى بعض المحللين أن في تأكيد الشاهد على قيام الانتخابات في موعدها رد دين سياسي لحركة
النهضة، التي وقفت إلى جانب بقائه على رأس الحكومة، حرصا منها على الاستقرار السياسي، كما تقول، حتى يمكن للحكومات أن تستوعب مشكلات البلاد وأن تأخذ ما يكفي من الوقت حتى تحقق إنجازات ذات بال في الميدان الاقتصادي، الذي يشكو من تعثر مشهود منذ الثورة، بحكم كثرة تغير الحكومات، بمعدل حكومة كل سنة تقريبا.
التغيير الحكومي بين الراغبين والمتخوفين
تعتبر حكومة يوسف الشاهد ثامن حكومة بعد الثورة التونسية. وبالرغم من أنها لم تنه سوى عام وثمانية أشهر من عمرها، إلا أنها باتت اليوم محل جدال وأخذ ورد وصارت في مرمى نيران قوى كثيرة.
ويتحدث العارفون بالساحة التونسية عن أن تغيير الحكومة بات اليوم مطلب رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، الذي يعتزم الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة العام القادم، ويخشى من رئيس حكومته الشاب أن يكون منافسا قويا له في تلك الانتخابات.
وينقل المطلعون على كواليس قصر قرطاج عن الرئيس قايد السبسي، الذي جاوز التسعين من عمره، أنه يعتبر إقالة الحكومة في الوقت الراهن أكثر من ضرورة. ويقولون إنه يخشى من نجاح الحكومة في تنظيم الانتخابات البلدية، ما يعطيها شرعية إضافية ويعقد عليه عملية إقالتها لاحقا. كما إن بعض المعارضين لإجراء الانتخابات يرغبون في إقالة الشاهد وحكومته، لعل في إقالته ما يصرف الرأي العام عن إجراء الانتخابات في موعدها المحدد.
أكبر المطالبين بإقالة الحكومة اليوم هو المركزية النقابية: الاتحاد العام التونسي للشغل. ويبدو أن العلاقة قد ساءت كثيرا بين رئيس الحكومة والرجل الأول في اتحاد العمال، ووصل الأمر بالأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، لأن يقول، في اجتماع نقابي واسع في مدينة سوسة الساحلية، موجها خطابه لرئيس الحكومة: "حل علينا رئيس الحكومة أمس يستعرض عضلاته، ويقول بعد أسبوع سنمر لملف الصناديق الاجتماعية.. نقول له نقدر حماسة الشباب.. ولكن نقول له أنت اخترت المعركة، والمعركة نحن لها، وقدرنا أن نكون في قلب الأحداث".
اتحاد رجال الأعمال المعروف باسم "الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة"؛ يبدو أنه اختار هو أيضا أن يكون قدره "في قلب الأحداث" إلى جوار غريمه التقليدي اتحاد العمال. فالاتحادان المعروفان بتناقض مواقفهما، باعتبار تناقض مصالحهما، باتا اليوم يطالبان بتغيير الحكومة. ويطالب اتحاد رجال الأعمال بإبعاد السياسيين عن الحكومة جملة، داعيا إلى حكومة كفاءات.
ويبدو أن حركة النهضة المهمومة بالاستقرار السياسي والنجاح الاقتصادي والحريصة على أن لا يشوش أي قرار على إجراء الانتخابات البلدية، هي الداعم الوحيد الباقي لاستمرار حكومة يوسف الشاهد. لكن النهضة قد تغير من رأيها إذا أصر شريكها في الحكم نداء تونس على تغيير رئيس الحكومة الذي ينتمي إليه.
فتوافق النهضة تم منذ 2014 مع حزب النداء ورئيسه الشرفي رئيس الجمهورية الحالي الباجي قايد السبسي، وليس مع يوسف الشاهد رئيس الحكومة، وبالتالي فهي إن اضطرت للمفاضلة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ستختار شريكها في
التوافق رئيس الجمهورية.. كما أن الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للنهضة أن لا يقع المس من موعد الانتخابات البلدية، واستكمال الفصل السابع من الدستور الذي ينص على تنزيل الحكم المحلي.
تغيير النظام السياسي والانتخابي
رغم تعهد رئيس الجمهورية في خطابه الأخير في الذكرى الثانية والستين لاستقلال تونس عن فرنسا، بأنه لن يتقدم بمبادرة لتغيير النظام السياسي من شبه برلماني إلى رئاسي، قائلا إنه يحترم الدستور الذي انتخب في ضوئه رئيسا للجمهورية. إلا أنه في السياسة بوسع المرء أن ينفي شيئا ليعني تأكيده.
فقد انطلقت حملة واسعة للمطالبة بتغيير النظام السياسي، وأقدم حزب صغير على تقديم مقترح دستور جديد لدى رئاسة الجمهورية يقوم على الصيغة الرئاسية للحكم. في المقابل، كلف رئيس الجمهورية مجموعة من الخبراء بتقديم مقترحات لتغيير النظام الانتخابي.
ويرى الخبير القانوني الصادق بلعيد، وهو أحد المكلفين من رئيس الجمهورية بمهمة تغيير النظام الانتخابي، أن تغيير النظام الانتخابي هو الخطوة الأولى لتغيير نظام الحكم. لكن عددا من الأحزاب السياسية متوسطة الحجم وصغيرة الحجم؛ ينتظر أن تقف بقوة ضد تغيير نظام الانتخابات القائم على القائمات النسبية مع أكبر البقايا، ما اعتبر طريقة لتشتيت الأصوات ولجعل البرلمان فسيفساء من الأحزاب والقوى. وتقف تلك الأحزاب في وجه أي تغيير للقانون الانتخابي لأنه سيخرجها من "المولد بلا حمص"، كما يقول المصريون، إذ سيقضي تماما على حظوظها في أي انتخابات قادمة.
التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة من عدمه
معركة أخرى حامية الوطيس في هذا الربيع التونسي الساخن، هي معركة التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة الساهرة على موضوع العدالة الانتقالية وتصفية إرث الاستبداد. وقد شهدت جلسة البرلمان التي انعقدت يوم 24 آذار/ مارس الجاري ملاسنات حادة وتدافعا بالأيدي بين النواب، على خلفية التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة من عدمه، ما جعل رئيس البرلمان يرفع الجلسة.
فالهيئة التي أنهت عامها الرابع ترغب في التمديد لها عاما آخر حتى تستكمل مهمتها. ويسمح القانون للهيئة بالتمديد لنفسها والاكتفاء بإعلام مجلس النواب، لكن نواب حزب نداء تونس وحزب مشروع تونس (المنشق عن النداء) وحزب آفاق تونس وبعض النواب المستقلين؛ لا يرغبون في التمديد للهيئة، في حين ترغب حركة النهضة والجبهة الشعبية، ذات التوجه اليساري، والقوى المحسوبة على الثورة؛ في التمديد للهيئة عاما آخر.
وترى القوى المحسوبة على الثورة أن حرص نواب النداء والمنشقين عنه على عدم التجديد للهيئة نابع من موقف معاد بطبيعته للهيئة ولمبدأ العدالة الانتقالية. ويقولون إن القوى التي قامت عليها الثورة يوجد الكثير منها في حزب النداء وفي حزب المشروع، ولذلك فموقفهم المعادي للهيئة موقف مفهوم ومتوقع.
أبعد من التجديد للهيئة يخشى بعض المراقبين من أن تؤدي المناكفات الحادة في مجلس النواب وبين السياسيين وفي مواقع التواصل الاجتماعي؛ إلى توتير الوضع السياسي ومن ثم العودة لما قبل العام 2014 وما قبل التوافق بين "الشيخين"، رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي والشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، الذي مكن تونس من التوصل لصيغة شراكة في الحكم، ضمنت حدا أدنى من الاستقرار السياسي والأمني.
وهناك جهات انشقت على حزب النداء على خلفية رفضها للتوافق، وهي اليوم تغذي كل أسباب الخلاف بين الأطراف المختلفة، مستغلة سخونة الأجواء السياسية مع قرب موعد الانتخابات البلدية لمزيد توتير الأجواء حتى تتمكن من إسقاط مبدأ التوافق، إلى الحد الذي جعل النائب الصحبي بن فرج، القيادي في حزب مشروع تونس، يقول: "أما ما حدث أمس في المجلس فقد يكون بمثابة الإعلان رسميا عن وفاة التوافق تمهيدا لإعلان انطلاق المعركة".. معركة قد يحلم حزب مشروع تونس أن تعيد البلاد إلى أجواء الاستقطاب السياسي، بما قد يقود لأوضاع شبيهة للانقلاب المصري على الحكم الديمقراطي.
إصلاح الصناديق الاجتماعية ومعركة اتحاد الشغل
لا أحد يعلم ما قد يحدث غدا.. لكن المؤشرات تنبئ بأن موجات من القلاقل الكثيرة قادمة تترى على حكومة يوسف الشاهد. فاتحاد العمال يبدو أنه قرر الدخول في معركة كسر عظم، إذ هدد أمينه العام بخوض المعركة مع الحكومة حتى نهايتها، وهدد بزحف العمال على العاصمة تونس. وإضافة لانحياز اتحاد الشغل لنقابة التعليم الثانوي في معركتها مع وزير التعليم، فإن إصلاح الصناديق الاجتماعية سيكون حلبة المواجهة الرئيسية بين حكومة الشاهد واتحاد الشغل. فالشاهد يؤكد عزم حكومته على إصلاح هذه الصناديق التي باتت مهددة بالإفلاس، واتحاد الشغل يرفض أن يتم إصلاح تلك الصناديق دون مشاورته في ذلك، والأخذ بوجهة نظره في الإصلاح.
فهل بوسع الحكومة أن تصمد في وجه النقابة، التي أغرتها قوتها واستسلام الحكومات المتتابعة لها منذ الثورة، حتى باتت الحاكم الأول للبلاد؟ أم إن السكاكين الكثيرة ستنال في آخر المطاف من قوة الحكومة ومن عزم رئيسها، وقد يسقط قبل أن يتم عامه الثاني؟ وهل ترى سقوطه سيكون قبل موعد الانتخابات البلدية أم بعدها؟.. لا أحد يعلم ما في رحم الغيب.. والتونسيون سينتظرون الأيام والأسابيع القادمة وما ستحمله في طياتها من جديد.