هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تشير الصورة الظاهرية والفكرة المتجذرة داخل الإسرائيليين أن كل من خدم ويخدم في الجيش له مكانة "ستاتوس" في المجتمع، وهذه الخدمة، والمكانة بالتالي، تمنحه الاحترام الكبير والتقدير الوافر، وهذا التجذير للخدمة فرض أمرا واقعيا، وهو أن رافضي الخدمة، وبصورة تلقائية ومباشرة، يتحولون إلى منبوذين، بل أشارت بعض وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية إلى أنهم برفض الخدمة ساعدوا "العدو الفلسطيني" ضد دولتهم التي أنجبتهم.
برز الانخفاض في مركزية مكانة الجيش في الوعي الثقافي
للمجتمع الإسرائيلي منذ وقت طويل على عدة مستويات، أبرزها ما قاله رئيس هيئة
الأركان السابق "أمنون ليبكين شاحاك" في 1996 في خطاب تأبين "إسحاق
رابين": "كم ابتعدنا، أيها القائد، عن الأيام التي كان فيها الزي
العسكري، مصدر فخر واعتزاز.. إن التهرب من الخدمة العسكرية لم يعد وصمة عار في
جبين المتهرب، وإن العطاء، تطوعا وعن وعي وبدافع الرغبة في المساهمة لم يعد يحظى
بالتقدير المناسب".
ومع أن عددا من رفاق "شاحاك" تحفظوا على
روح أقواله، إلا أن معظمهم وافقوا على مضمونها، فالعلاقات بين المجتمع والجيش،
التي كانت قبل عقد أو عقدين مفهومة بحد ذاتها، تتصدر اليوم مركز قلق الجيش، الذي
تعتبر مهمة الحفاظ على مكانته في قلب الوعي الوطني من مهامه الرسمية.
لقد تقوضت مكانة الجيش كإطار لا يمكن أن يخطئ، ووجد
نفسه في نهاية حرب يخوضها ضد تدني مكانته في نظر الجمهور، وساعد في هذه المسألة الطابع
الفاشل لمعظم نشاطاته الميدانية في السنوات التالية، في الجبهتين اللبنانية
والفلسطينية، وهي صراعات استمرت بصورة غير متوقعة، وصبغت بإثباتات مخيبة للآمال
على القدرة المهينة غير المناسبة للجيش، وتؤكد التدني الأخلاقي على مستويات قيادية
مختلفة، وازداد التأثير السلبي لهذه الإخفاقات على صورة الجيش عبر تشويش حدود
"الأفق الثقافي"، التي كفلت في السابق مستوى أعلى من الاحترام لكل شكل
من أشكال المرجعيات الجماهيرية.
اقرأ أيضا: خبير إسرائيلي يكشف المزيد عن التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل
ليس فقط أن هذه التطورات تمكن الجمهور من دراسة
نشاطات الجيش بعمق أكبر، بل إنها توسع بإضعاف السبل التي يستطيع بها فعل ذلك، إن
وسائل الإعلام الإلكترونية والمكتوبة، ورغم أن تأثيرها لا يزال قويا، فهي تشكل اليوم
فقط مسارا واحدا لتغلغل المجتمع إلى الشؤون العسكرية.
هذه التطورات المتزامنة أكثر من مرة، تساهم في
الإحساس داخل الجيش بأن استقلاليته آخذة بالتآكل، ولم يعد الجمهور يؤمن بأنه الجيش
الأقوى في العالم، على العكس، فإن الإسرائيليين اليوم أقل تفاؤلا وأكثر خوفا، ولم
يعودوا يؤمنون بالقوة العسكرية كثيرا، وإن لم يكن هذا كافيا، فقد فقدوا ثقتهم
بمؤسسات الدولة، هذه المعلومات مستقاة من معطيات مقياس المناعة القومية السنوي الذي
عرض في مؤتمر هرتسيليا.
لقد بدا واضحا أن هناك إضرارا كبيرا في ثقة الجمهور
بقدرة الدولة على مواجهة تهديدات خارجية، وأنه يميز بين المناعة الاجتماعية للدولة
وهو راض عنها، وبين القيادة العسكرية، التي لم تثبت توقعاته السابقة.
وأفاد استطلاع للرأي أجرته صحيفة "هآرتس"
بأن ثقة الشباب الإسرائيلي في الجيش، انخفضت بنسبة 7 بالمئة خلال السنوات الأخيرة، مما
يزعج القيادة العسكرية، التي أجرت استطلاعات سرية أعطت نتائج مشابهة في الماضي،
وأقيمت لجنة خاصة في الجيش لمعالجة المشكلة، وإعادة الثقة للشباب ومنع تدهور الوضع
أكثر.
قسم علوم السلوك، الذي يدرس مواقف رجال الجيش، سأل
رجال الخدمة الدائمة سؤالا بسيطا: كيف برأيكم يُنظر إلى المهنة العسكرية في أعين
الإسرائيليين، وجاء الجواب لافتاً؛ أنه بعد أن كانت هذه المهنة اعتبارية في سنوات
ماضية، فقد باتت نسبة من الجمهور الإسرائيلي تنظر إليهم كـ"كومة من
المتعطلين"، ومع مثل هذه الصورة القاسية من الصعب بث روح حقيقية في الجيوش،
والانتصار في الحروب.
اقرأ أيضا: إسرائيل تتساءل: كيف ستنعكس مسيرات غزة على الضفة؟
وإثر حروب لبنان وغزة الأخيرة، كان من الواضح أن
المطالبات الرسمية والشعبية بتشكيل لجان للتحقيق في الهزيمة التي مني بها الجيش،
ستطال في نهاية الأمر الكبار الذين قادوا تلك المعارك، ولذلك من الجدير التطرق
لمواقفهم من التحقيق الذي بدأ الحديث بشأنه فور بروز مؤشرات الهزيمة:
يعيد بعض الباحثين الإسرائيليين أسباب تراجع الثقة
في الجيش إلى جملة أسباب وعوامل، أهمها التعبير عن الغضب والخذلان الذي سُمع من
أفواه الجنود في عدم تحقيقهم الانتصار الكاسح على العدو، بسبب التشويش الذي حصل في
اتخاذ القرارات، والإحساس بالضياع لدى الجنود غير المدربين وقليلي التجهيز المناسب، والأوامر المتضاربة والمتغيرة باستمرار، وقلة التنسيق، وعدم الفهم للمهمات
والأهداف، كل هذه العوامل أدت لفقدان الثقة بالقيادة وبالزعامة العسكرية، ولذلك لم
يكن غريبا أن كثيرا من المحاربين قالوا بأنهم إذا دعوا مجددا للحرب، فربما لن
يُلبوا الدعوة!
وبذلك فإن قيادة هيئة الأركان مسؤولة عن عدم ثقة
الجمهور بقوة الجيش، وستكون مسؤولة عن عدم التزام وخضوع الجنود للأوامر في
المستقبل، ومسؤولة أيضا حتى إذا كان هناك مسؤولون من تحتها ومن فوقها، لأنها
مسؤولة بناء على وظيفتها، عن كل الأخطاء والفشل الذي ظهر في تشغيل وتنفيذ المهام
بالقوة المسلحة، سواء تدريبها أو تسليحها.
عدم الثقة الذي تولد بصورة لا تقبل الشك بقيادة
الجيش والمؤسسة العسكرية إجمالا، يعود في حقيقته لعجز القيادة العسكرية عن الإجابة
على سيل كبير من التساؤلات، أهمها:
أ- ما هي الخيارات الرئيسة التي يستطيع الجيش
تنفيذها في غضون أزمان محددة؟
ب- ما هي الأهداف الرئيسة لكل خيار، وكيف تُرسم
صورته النهائية؟ وما هو قوس النتائج المتوقعة من الإنجازات العسكرية والضرر
بالعدو، والمعنى السياسي، ومصابي الجيش، ومصابي الجبهة الداخلية والكلفة
الاقتصادية؟
ت- بالقياس لكل خيار، ما هي القوات التي يجب على
الجيش استعمالها في أطوار العمل المختلفة؟
ث- على ماذا تعتمد الإجابات، هل التدريبات
الابتدائية للقوات هي قاعدة صلبة للتنبؤات، ولأي مدى تستعد القوات ونظريات التشغيل
لتنفيذ الخيارات؟ هل يعتمد الجيش على أسلحة ونظريات قتالية لم تُجرب بعد في الظروف
التي تشابه الظروف المتوقعة؟
ج- ما مدى الثقة في المعلومات الاستخبارية
واستيعابها التي تعتمد عليها الإجابات؟
ح- بعد جميع التقديرات، ما الذي يوصي به الجيش
كأفضلية أولى وثانية؟ ولماذا؟
لكن الخسارة الأكثر فداحة التي تكبدها الجيش في مجال
ثقة الجمهور به، تمثلت في قول أحد أكبر المعلقين الإسرائيليين أنه لا داعي لتشكيل
لجان تحقيق رسمية في إخفاقات الحروب الأخيرة، لسبب واحد بسيط: أن الجيش –والحكومة
من خلفه- يعترفان في واقع الأمر بأنهما فشلا، ولم يتبق أمام اللجنة إلا تحديد حجم
الفشل، ومسؤولية كل واحد من قادة الحكم عنه، فرادى ومجتمعين! إلى هذا الحد!
ولذلك فإن مشكلة الجيش المركزية اليوم ليست ضعف
الانضباط، بل ثقة المواطنين والدولة، وثقة القادة بجنودهم بسبب ما حدث في حروبه
الأخيرة، الآن الجيش أمام مشكلة أخرى مغايرة، وهي عدم ثقة الجنود بقادتهم الذين لم
يستخلصوا العِبر من تلك الحروب، وعدم الثقة بالجيش الذي اشتهر بأن قادته يسيرون
على رأسه، هذه أول مرة يفقد فيها الجنود، خاصة الاحتياط منهم، الذين هم جنود
مقاتلون، قدامى وشجعان، ثقتهم بقادتهم"!
هذه الثقة التي باتت مهزوزة، نجمت عن حالة لم يعهدها
الجيش من قبل، فقد تكرر أن يعلن عن وقف إطلاق النار في وضع هو الأسوأ بالنسبة
لـ"إسرائيل": ليس في حالة انتصار، ولا انهيار، بل في حالة من الفشل، حرب كان
بها عدد كبير من المقتادين، دون أن يكون فيها قيادي واحد، وقدر كبير من عجرفة
القادة الكبار، ومن الخطابات "التشرتشلية" مع قدر قليل جدا من التفكير
فيما تريده الدولة، وما تسعى إليه في هذه الحرب.
الخطر الأشد جسامة الذي وقع فيه الجيش، فضلا عن أزمة
الثقة الداخلية بين قادته وجنوده، وما كشفته تلك الحروب عن مستويات متدنية لبعض
الأسلحة، واستخبارات رديئة و"غطرسة" بعض القادة، أنها ستؤثر على صورته
في نظر أعدائه، وتأثيره الحاسم على قرارهم بالشروع في حرب المستقبل، أو إطلاق
الصواريخ على العمق الإسرائيلي.