هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد القضاء على العدو الداعشي المشترك في سوريا، دخلت دمشق مرحلة صراع مباشر بين اللاعبين والقوى الإقليمية والدولية بعد سبع سنوات من خوض تلك القوى حروبا بالوكالة، وتبادلها رسائل بطرق ملتوية غير مباشرة، ما فاقم الأزمة وعمقها وأوصل البلد إلى المأساة اللاإنسانية.
إطلاق طائرات مسيرة نحو قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية في كانون الثاني/ يناير الماضي، وإسقاط الطائرة العسكرية الروسية في إدلب، والطائرة الحربية الإسرائيلية في شباط/ فبراير كانت بدايات تدشين لهذه المرحلة في سوريا.
أهم تلك الأحداث كان استهداف الطائرة الإسرائيلية، لما حمل ذلك من رسائل ودلالات وتداعيات مازالت مستمرة، آخرها كان قصف سلاح الجو الصهيوني مطار "تي 4" في حمص وسط سوريا في التاسع من نيسان/ أبريل، الذي أودى بحياة سبعة عسكريين إيرانيين.
إسقاط الطائرة الإسرائيلية عبر المضادات الجوية السورية وإن حمل بصمات إيرانية، لكنه لم يكن عملا عسكريا إيرانيا مباشرا ضد الكيان الصهيوني، أما الاستهداف الصهيوني الأخير للقوات الإيرانية في مطار تيفور العسكري يمثل عملا عسكريا مباشرا من هذا الكيان ضد التواجد الإيراني في سوريا.
وبالأحرى هو إعلان حرب على القوات الإيرانية والمتحالفة مع إيران في الأراضي السورية، اعتبره الأمين العام لحزب الله مفصلا تاريخيا أدخل به اسرائيل نفسها في قتال مباشر مع إيران على حد تعبيره.
الكيان الصهيوني يصبو إلى تحقق أهداف عدة من خلال هذا الهجوم، أهمها:
ـ تغيير قواعد الاشتباك في الميدان وكسر معادلة الردع الإيراني السوري التي أرادوا خلقها من خلال إسقاط الطائرة الحربية الإسرائيلية، فأرادت تل أبيب التأكيد أنها لن تخنع لهذه المعادلة وتستمر في استباحتها الأراضي السورية.
ـ حرف أنظار العالم عن مسيرات العودة الكبرى لإسرائيل بإشعال أزمة أخرى.
ـ الانتقال من مرحلة التهديدات الكلامية إلى الأعمال العسكرية ضد إيران والقوات المقربة منها في سوريا، بعد التقدم الذي حققته تلك القوات خلال العامين الأخيرين، تمثل في استعادة النظام السوري السيطرة على معظم الأراضي السورية من المعارضة، ما ترتب أولا تعاظم النفوذ الإيراني في سوريا، الذي تعتبره إسرائيل تهديدا مستقبليا لها.
وعززت هذه القناعة الإسرائيلية محاولات إيران وحزب الله تأسيس جسم مقاوم في المنطقة المحاذية للجولان السوري المحتل ضد الاحتلال الإسرائيلي.
مع ذلك، لا يبدو أن الطرف الإسرائيلي يرغب في خوض مواجهة شاملة مع إيران في سوريا، والدليل على ذلك أنه بعد إطلاق تهم لطهران بالوقوف وراء إسقاط طائرته تأخر كثيرا في الرد، وقيامها بالهجوم ضد القوات الإيرانية في معمعة الضجة التي أثارتها الحملة الكيماوية ضد الأبرياء في دوما، يؤكد أن تل أبيب كانت تترصد فرصة تطمئنها إلى حد كبير من عدم رد إيراني سريع يؤدي إلى حرب شاملة.
هنا يكون قد استغل الكيان الصهيوني الحادث الكيماوي لتوجيه هذه الضربة بعد أن اطمأن أنها لن تجلب ردا إيرانيا مماثلا بسبب الظروف المستجدة. مع ذلك، الكيان أصبح يأخذ التهديدات الإيرانية التي جاءت على لسان أكثر من مسؤول إيراني على رأسهم علي أكبر ولايتي المستشار الأعلى لقائد الثورة على محمل الجد.
بيد أن جل ما يريده الكيان الصهيوني فعله ضد إيران في سوريا هو توجيه ضربات متقطعة دون سقف المواجهة الشاملة، وفي الوقت ذاته مواصلة الضغط عبر روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لإخراج الإيرانيين من كل الأراضي السورية أو أقله من مناطق قريبة من فلسطين المحتلة.
ومن جانب آخر، فإن إيران أيضا لا ترغب في تصعيد غير محسوب مع "إٍسرائيل" في سوريا يمكن أن يؤدي إلى تغيير المعادلة، وما يهمها حاليا هو مواصلة التقدم الميداني مع النظام السوري وبقية الحلفاء.
هذا لا يعني أنها سوف تتجاهل الأعمال الإسرائيلية الاستفزازية، حيث أنها تبحث عن خيارات للرد على هذه الهجمات تكون رادعة إلى حد كبير، وفي الوقت نفسه لا تشعل حربا ضروسا.
وفق مصادر مطلعة والتصريحات الرسمية الإيرانية فإن حادثة مقتل الجنود في تي 4 لن تمر دون عقاب، وأما كيف ومتى فتحدده عوامل ميدانية تضبط وتيرة الفعل ورد الفعل، وأثبتت التجربة أن الطرف الإسرائيلي يتمادى في حال لم يتم الرد عليه وينضبط عندما يعاقب على أفعاله.
أما اذا تعرضت طهران إلى حرب مباشرة في سوريا سواء من الكيان الصهيوني أو غيره، تشكل خطرا كبيرا على المكاسب التي حققتها خلال السنوات السبع الماضية، والمتمثلة في بقاء النظام السوري واستعادته السيطرة على معظم ما فقده من الأراضي، يتوقع أن لا تتردد في القيام برد فعل قوي، حيث تؤكد بعض المصادر وجود عشرات آلاف صواريخ إيرانية جاهزة للإطلاق في الأراضي السورية، خصيصة لتلك المواجهة إن حدثت.
أما فيما يتصل بالتهديدات الأمريكية بشن هجوم على سوريا ردا على استخدام السلاح الكيمياوي، هي أيضا مدفوعة إسرائيليا ضد الوجود الإيراني بالدرجة الأولى، كتهديد استراتيجي على الحدود الشمالية لم يكن موجودا من قبل، من شأنه أن يضاف إلى الأخطار الموجودة في شمال وجنوب الأراضي المحتلة. لذلك الموضوع الكيمياوي ليس إلا قميص عثمان توظفه واشنطن تحقيقا لمآربها.
الضربة الأمريكية حال وقعت، قد تستهدف تحجيم الدور الروسي في ترسيم مستقبل سوريا، لكنها أساسا ليست موجهة ضد روسيا التي تربطها علاقات استراتيجية بإسرائيل. فبالرغم من تحذيرات وتهديدات متبادلة بين ترامب ومسؤولين روس، لن تحدث أية مواجهة بين الجانبين على الأراضي السورية.
وإنما كما قلت أن الهدف هو ابعاد إيران عن سوريا على المدى المتوسط والبعيد. هذا ما يؤكد عليه رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو أيضا، الذي قال وسط التهديدات الأمريكية الراهنة إنه إذا ما ردت إيران على أي ضربة محتملة لسوريا بتهديد أمن إسرائيل، الأخيرة سترد بازاحة حكم الرئيس السوري بشار الأسد.
تصريح نتنياهو يؤكد أمرين، أولا أن الضربة الأمريكية لا تستهدف إسقاط الأسد بالأساس، وثانيا أنها ضد التواجد الإيراني في سوريا.
الإدارة الأمريكية من خلال إطلاق التهديدات بمهاجمة سوريا أو القيام بأي ضربة محتملة، تشن حرب نفسية تستهدف إخافة الإيرانيين ولعل دفع الروس باتجاه مقايضة تتعهد بموجبها موسكو بالعمل على إبعاد إيران عن سوريا مقابل عدم توجيه الضربة واحترام مصالحها أو جعلها محدودة النطاق في الزمان والمكان.
وهذا قد يسعد روسيا أيضا ويجعلها الحليف الوحيد للنظام السوري، يسهل عليه التحكم بمسارات الأمور بعد تغييب الدور الإيراني.
عليه فإن انسحاب البوارج الحربية الروسية من الشواطئ السورية وكذلك مدلولات التصريحات الروسية، توحي أن موسكو تريد من الآن استيعاب أي ضربة أمريكية محتملة، ما يؤكد ثلاث قضايا أساسية.
الأولى أن روسيا تعرف جيدا أن هذه الضربة لا تستهدف وجودها في سوريا ومصالحها هناك، والثانية أنها ليست مستعدة للتضحية دفاعا عن إيران أو حتى النظام السوري، والثالثة أن هذه الخطوة ربما تستهدف الضغط على النظام السوري وحلفائه للقبول بالصفقة الأمريكية الروسية المحتملة.
الخلاصة أن ثمة مؤشرات قوية تؤكد أن واشنطن وحلفائها ينظرون إلى سوريا بوابة مواجهة فعلية للنفوذ الإيراني الإقليمي، المتغير الأساسي في هذه المرحلة ليست الدماء السورية والكيمياوي، وإنما الأمن الإسرائيلي الذي يرى قادة إسرائيليون أنه بات تحت تهديد مرتفع بعد تعاظم الدور الإيراني، لذلك تستهدف هذه المرحلة بالأساس إخراج إيران من الأراضي السورية في نهاية المطاف.
أما طهران ففي الوقت الذي قد تقبل إعادة انتشار قواتها والمتحالفة معها في سوريا بما يقلل من الحساسيات، وفي المقابل وبعد كل هذه الأثمان التي دفعتها خلال السنوات السبع الماضية، لن تقبل بالخروج منها.
زيارة ولايتي إلى سوريا في معمعة التهديدات الأمريكية ولقاءه بالأسد وقيامه بزيارة ميدانية للغوطة الشرقية تحمل دلالات واضحة في هذا الاتجاه، فأرادت طهران القول إن تلك التهديدات لا تردعها ولا تخضعها للإملاءات الأمريكية، وأنها تقف إلى نهاية المطاف مع الحليف السوري ضد الهجوم الخارجي.
وأخيرا أن يؤخر الضربة الأمريكية حتى اللحظة أو قد يمكن أن تحول دون وقوعها على نطاق واسع يغير المعادل، هو تعقيدات الوضع السوري التي تربك حقا خريطة حسابات القوى الإقليمية والدولية في سوريا، من جهة، وكذلك إعطاء مزيد من الوقت لمداولات روسية أمريكية سرية للتوصل إلى مقايضة تحقق مصالح الطرفين.