توالى ظهور الأستاذ يوسف ندا الإعلامي في الفترة الأخيرة، وبات واضحا
أن الأمر ليس مجرد صدفة أو ظهور إعلامي بلا ترتيب، إنما تجري الأمور بترتيب واضح،
سواء كان هذا الترتيب من الجهة التي يتواصل معها، وتريد منه أن يفعل ذلك بهدف
توريطه وتوريط
الإخوان أمام الرأي العام، أو أن الأستاذ ندا لديه من الوثائق
والأدلة ما يمكنه فضح هذه الجهات إذا ما تلاعبت أو حاولت التلاعب به وبالجماعة.
هذا أمر لا نعلمه ويبدو أننا لن نعلمه، فالأستاذ ندا، وفي كل حواراته مع قناة
الجزيرة أو تصريحاته التي نقلها عنه موقع "عربي21" لا يعطيك شيئا مما
يروي ظمأ السائلين ولا غرور الفضوليين، بل وفي كل مرة يزيد الأمر غموضا، حتى تتمنى
أن لو أنه صمت.
يصمت
أو يغيب الأستاذ ندا قليلا ثم يعود، وفي عودته الأخيرة تجد - ويا للمصادفة - أن
الإعلامي الموالي للنظام عماد أديب يخرج على الملأ، ومع من؟ مع أحمد موسى، العدو
الأول للإخوان المسلمين ليطالب بالتصالح مع محبي ومؤيدي الإخوان ممن لم يتورطوا في
أي دماء، وبالتالي يسأل المرء نفسه: لماذا عماد أديب ولماذا الآن؟ ثم تكتشف أنه
بعد أيام، يظهر الأستاذ يوسف ندا على أعلى منبر إعلامي في المنطقة (قناة الجزيرة)،
وكأنما يقول للآخر: "إنك إن خاطبتني من منبر يكن العداء للإخوان فأنا أخاطبك
من منبر أرفع منه".
ثم،
وكالعادة، يخرج عمرو أديب، وهو صاحب مقام رفيع لدى النظام وواحد من أقوى أبواقه
ممن يوصفون بالاعتدال، فإذا به يقدم وصلة ردح في أعقاب تصريحات الأستاذ ندا، والتي نقلها عنه
موقع "عربي21". وبالمناسبة، وللمفارقة،
فعمرو أديب الذي قام بدور الشرير هو الأخ الأصغر لعماد أديب الذي قام بدور الطيب..
وبالمناسبة أيضا، فكلام عمرو أديب ردا على الأستاذ ندا كان قبل أن يظهر الأستاذ
ندا صوتا وصورة مع الإعلامي أحمد طه في قناة الجزيرة، وتصريحه بأنه يتعين على
الإخوان إقناع الرئيس مرسي بالتخلي عن منصبه وإفساح المجال لإجراء انتخابات
حقيقية، وليست سيساوية.
الأستاذ
يوسف ندا هو المفوض السابق للعلاقات الدولية في التنظيم الدولي للإخوان، كما يحب
أن يعرف نفسه، وهو شخصية ثرية من حيث الأفكار والخبرات، وله اتصالات جيدة بعدة
عواصم عربية وإقليمية اكتسبها على مدار عقود من عمره منذ خروجه من
مصر عام 1960.
ومهما ادعى أحد في قمة الهرم الإخواني أو في أوسطه أنه ليس عضوا في الإخوان، فإن
كافة تحركاته لا تتم إلا بالمشورة والاتفاق المسبق، على الأقل مع الأستاذ إبراهيم
منير الذي يعتبر الآن المرشد الفعلي للجماعة. وبغض النظر عن الأسماء والمناصب،
فإنه من يقود الجماعة منذ ثلاثة أعوام تحت مسمى القائم بأعمال نائب المرشد العام؛
لأننا نعلم أن المرشد العام الدكتور محمد بديع أسيرا لدى النظام (فك الله أسره
وإخوانه)، كما نعلم أن الدكتور محمود عزت نائب المرشد لا يعلم عن مكانه أحد، ولم
يظهر منذ الانقلاب وحتى اليوم (أسأل الله أن يحفظه وإخوانه).
إذن،
ما حقيقة ما يجري؟ أقدم بين يديك عزيزي القارئ تفسيري المتواضع للمشهد المتكرر، في
ظل قراءة لتصريحات متعاقبة ومتباعدة للأستاذين المحترمين، يوسف ندا وإبراهيم منير:
1- هناك
عملية استشعار عن بعد يقوم بها النظام بين الفينة والفينة، تتم عبر بعض العسكريين
القدامى وبعض حوارييهم من رجال الأعمال لجس نبض الإخوان، من أجل طي صفحة الماضي
بدون مناقشة الماضي وجراحه. يعني نبدأ من اليوم!!!
2- هناك
معلومات مؤكدة عن اتصالات تمت عبر بعض السفارات المصرية في الخارج، في محاولة لفهم
ما الذي يمكن التفاوض بشأنه، مع العلم بأن النظام قد وضع سقفا لأي مشروع تفاوضي،
وهو الانعزال التام والعيش في سلام دون ضجيج للنظام - أي نظام - والقبول بمعادلة
مبارك القديمة، وهي تحركوا في بعض المساجد، ونافسوا على بعض مقاعد النقابات،
وأصدروا البيانات في المناسبات، لكن إياكم من الاقتراب من البرلمانات.
3- ذكر
الكاتب عبد الله هنداوي في مقاله المنشور في "بلومبيرج "قبل أسابيع
قليلة؛ أن زيارات تمت لبعض قيادات الإخوان في السجون، وهذا أمر يتكرر ولكن لا ينشر
عنه إلا ما يريد النظام نشره أو استخدامه إعلاميا.
4- قواعد
الإخوان المسلمين غير راضية عن فكرة
المصالحة، لا بالشروط المذكورة أعلاه ولا
بأكبر منها؛ لأنها تعتقد أن تضحياتها تؤهلها لنيل ما هو أفضل من ذلك، وأن المطلوب
هو رأس النظام وجوقته بكامل طواقمها. والكلام هنا عن العسكر بجنرالاتهم واقتصادهم
وإعلامهم وقضاتهم، وليس دون ذلك شيء.
5- بعض
المراقبين الإقليميين يرون أنه إذا كان الإخوان في حالة ضعف لا تؤهلهم لاشتراط ما
يرونه مستحقا على النحو المذكور أعلاه، فإنهم يرون أن
السيسي في وضع سيئ، وأن مصر
في وضع مأساوي، وأن المسألة تجاوزت السيسي وجنرالاته لتصل إلى مستقبل مصر ودورها
الذي تآكل ومستقبلها شديد السواد الذي يبدو ماثلا للعيان، في ظل الإدارة الكارثية
للسيسي والعسكر، وبالتالي فإن الطرفين لا يمتلكان القوة اللازمة للحسم أو الاشتراط.
وهنا
يبدو السؤال الذي عنونت به المقال:
لماذا
يريدون أن يكون الأمر حكرا أو دولة بين الإخوان والعسكر؟
هذا
ما أسميه متلازمة الإخوان والعسكر. فيبدو لي أن قادة التنظيم لم يدركوا حتى اللحظة
قيمة وعظمة ثورة يناير2011، وأنهم لا يزالون بعيدين عن فهم حقيقة ما جرى، وهي أن
الشعب خرج معارضا ثم ثائرا ضد مبارك وضد العسكر، ولو ترك له الاستمرار في ثورته
ولم تتم الانتخابات الرئاسية حتى يتم تطهير البلاد من الحكم العسكري؛ لكان الوضع
أفضل بكثير، لأنه وببساطة كانت الانتخابات الرئاسية ستجرى وأيدي العسكر لم تصل بعد
إلى المفاصل الرئيسية للبلاد وثرواتها على النحو الذي حدث أثناء الانتخابات وترسخ
بعد الانقلاب.
ما
حدث هو أن العسكر فهموا طبيعة التركيبة السياسية موازين القوى في مصر عبر العصور،
وقاموا بتحليل العوامل النفسية لكافة القوى السياسية وأدركوا أيضا أن التكوين
النفسي والتربوي للإخوان يستحيل عليهم معه الميل للقوة أو مواجهة النظام؛ لأنهم
وببساطة قوة إصلاحية وليست قوة ثورية.
خرج
العسكر بتصور عما يجب عمله، وكانت استراتيجية "فرق تسد"، حتى تمكنوا من
عزل الإخوان عن محيطهم الثوري وعن الشعب، وبالتالي يسهل التعامل معهم وفق قواعد
التعامل السابقة.
المستجد
الذي ربما لم يدركه البعض في مواقع القيادة الإخوانية (دون اتهام أحد) أن العودة
لمتلازمة الإخوان- العسكر هي خيانة بكل المقاييس، وهي ردة عن الثورة، وأنه من
الأفضل لهذه القيادات (مع احترامنا وتقديرنا لدورها التاريخي) أن تعيد الكرة إلى
ملعب قواعد الإخوان والقوى الثورية.. وأتصور ما يلي:
1- عقد
جمعية عمومية للإخوان المسلمين في الخارج والداخل، من أجل صياغة رؤية الجماعة في
السنوات الخمس أو العشر المقبلة، في إطار تحليل ما جرى في السنوات الخمس الماضية،
وتعلم الدروس المستفادة منه.
2- في
ضوء هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة، يتم انتخاب مجلس شورى عام جديد للإخوان،
ومكتب إرشاد جديد، مع احتفاظ القادة بمكانتهم كجهات مرجعية لها تضحياتها وقيمتها
في الجماعة؛ لحين خروجهم إن شاء الله (فك الله أسرهم).
3- بالتوازي،
يتم عقد مؤتمر للقوى الثورية والمعارضة للخروج بتصور موحد لاستراتيجية التعامل مع
المستجدات على أرض مصر، في ضوء معارضة الجميع واتفاقهم على إبعاد العسكر عن الحكم
والسلطة.
4- في
ضوء ما يسفر عنه الاجتماعان السابقان، يتم تشكيل حكومة منفى أو حكومة ظل، أو مجلس
لقيادة الثورة والمعارضة.
5- هذه
الحكومة أو هذا المجلس هو المسؤول عن أي عملية سياسية أو اتصال سياسي، وليس غيره،
ولا يحق لغيره فعل ذلك منفردا.
6- إن
تم كل ذلك، يمكننا رفع الحرج عن جماعة الإخوان المسلمين، وهي - باعتراف الجميع -
أكثر القوى السياسية تضحية حتى اليوم. ومن ناحية أخرى، نكون قد نجحنا في إفشال
متلازمة الإخوان والعسكر، ومن ناحية ثالثة، نقدم جميعا مساعدة للإخوان في الخروج
من أزمتهم التي تلقي بظلالها على الجميع.
"ما تأخر من بدأ".