ليس ثمة شك في أن بين "المعرفة" و"السياسة" أكثر من نقطة التقاء وتقاطع، غير أنه لا أحد يجادل في أن لكل مجال ما يجعله متميزاً ومختلِفاً عن الآخر. فـ"المعرفة" تفكير وتأمل وإنتاج وإبداع وخلق، و"السياسة" حركة وعمل ونشاط دؤوب. والحال أن المجالين يتميزان، بيد أنهما يتكاملان، وكي يتحقق ذلك يحتاج الأمر إلى قدر رفيع من التكافؤ والتوازن، حتى لا تتحول "المعرفة" إلى إِمَّعةِ في عالم "السياسة"، يَقصِدُها "السياسيون"، أي صناع القرار، لشرعنة ممارساتهِم وتسويغ قراراتِهم، أو تغدو "السياسة"، وقلَّما تكون كذلك، طقوساً علميةً بلا روح. فهل من الممكن بناء علاقة متوازنة بين "المعرفة" و"السياسة"، خصوصاً في بلادنا العربية، حيث اتسمت حياتنا العامة بمَيسَمِ الغُلُوِّ والإفراط وصعوبة احترام الحدود التي يفرضها واقع التنوع في الاهتمام والاختصاص؟
تستمد استقلالية "المجال المعرفي" عن "المجال السياسي" قيمتها من "خصوصية" كل حقل من جهة، ومن صعوبة وخطورة تداخل المجالين. فالمعرفة، من حيث هي "تفكير، وتأمل، وابتكار وإنتاج"، تحتاج بالضرورة إلى قدر كبير من الحرية ودرجة عالية من الاستقلالية، قد لا تتوفر في "السياسة"، باعتبارها فن "السلطة". لذلك، يشكل فصل المجالين عن بعضهما البعض من المداخل الاستراتيجية لإعادة الاعتبار للعلم والمعرفة، وبالنتيجة من أجل تكريس الحرية الأكاديمية.
هل من الممكن بناء علاقة متوازنة بين "المعرفة" و"السياسة"، خصوصاً في بلادنا العربية، حيث اتسمت حياتنا العامة بمَيسَمِ الغُلُوِّ والإفراط وصعوبة احترام الحدود التي يفرضها واقع التنوع في الاهتمام والاختصاص؟
تشكو النظم السياسية للدول العربية، بدرجات متفاوتة، من تواضع الديمقراطية في بنائها السياسي والمؤسساتي، كما تعاني مجتمعة من توطين الحرية في كيانها المجتمعي، لأسباب تاريخية وثقافية. فقد أثبت مرور أكثر من نصف قرن على استقلال مجمل البلدان العربية؛ أن مؤشرات الديمقراطية لا زالت متواضعة في سجلها السياسي.
من مؤشرات تأثير العجز الديمقراطي، هيمنة السلطة التنفيذية على صنع السياسات العمومية في مجال التعليم العالي والبحث العلمي
فمن مؤشرات تأثير العجز الديمقراطي، هيمنة السلطة التنفيذية على صنع السياسات العمومية في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، وسعيها إلى تكريس نمط من المعرفة مندرِج ضمن استراتيجية الدولة وموالٍ لها، حيث يتم التحكم في المناصب القيادية لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، عبر التعيين والاختيار وليس الانتخاب، وغالباً ما يتم الاستناد على مقاييس المحسوبية، وليس الكفاءة، والموضوعية، والاستحقاق. نحن إذن أمام نظم تجهد من أجل إنتاج وتكريس نمط من الولاء عبر آلية التنسيب في المناصب القيادية.. فحين تلجأ السلطة إلى استصدار قرار التعيين على مثل هذه المقاييس، تولّد، بالضرورة، لدى المعنيين شعوراً بأنهم مدينون لها، بل تُرهن استمرارهم في المناصب وإمكانية الترقي في أخرى أعلى منها؛ بمدى قدرتهم على توسيع دائرة الطاعة والولاء. وقد تساهم بعض النظم في خلق إطارات تنظيمية ونقابية، وحتى خلايا وشعب سياسية موالية لها ولحزبها داخل مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، وترعاها بالدعم المباشر وغير المباشر، لتخلق بذلك شرخا بين الموالين للسلطة والمعارضين لها، والأخطر من كل ذلك تفعل في اتجاه التأثير على الهيئات والمؤسسات العلمية داخل الجامعات، بحفزها أو الضغط عليها في الأمور ذات الصبغة العلمية والتربوية الصرفة، إما لخدمة مترشح منتصر لاستراتيجيتها، أو لتأديب المعارضين لها والإضرار بمصالحهم.
حيث أن النظم السياسية تشكو في عمومها من ضعف "الشرعية " ومحدودية انغراس مبادئ الحكامة الجيدة في ثقافتها السياسية، فقد صعب على "المجال المعرفي" الاستقلال بذاته تفكيراً ومبادرةً وإنجازاً
لذلك، ترتبت عن هذا الواقع هشاشةُ استقلالية الجامعة ومؤسساتها، وتعذر على المشتغلين فيها امتلاك القدرة على العمل بمنأى عن تدخل السلطة التنفيذية وأجهزتها الوصية، علماً أن القانون لم يكن وحده مكرِّساً لهيمنة السلطة التنفيذية على المجال العلمي والأكاديمي، بل لعب الموروث الثقافي دوراً مهماً إلى جانب النصوص التنظيمية ذات العلاقة. وفي الواقع، تشترك النظم السياسية العربية في خاصية عدم استقلالية المجال المعرفي عن نظيره السياسي، وتحكم الثاني وهيمنته على الأول. وحيث أن النظم السياسية تشكو في عمومها من ضعف "الشرعية " ومحدودية انغراس مبادئ الحكامة الجيدة في ثقافتها السياسية، فقد صعب على "المجال المعرفي" الاستقلال بذاته تفكيراً ومبادرةً وإنجازاً، أسوة بما هو حاصل في مناطق كثيرة من العالم. ومن الجدير بالإشارة التأكيد على أن عدم الاستقلالية لا تمس الجانب العلمي والبيداغوجي فحسب، بل تمتد إلى الأمور المالية والإدارية والتسيير العادي لشؤون الجامعة ومؤسساتها.
كشفت تجارب الجامعات العربية عن الحاجة الماسة إلى شرط "الاستقلالية" لإدراك التراكم المطلوب في مجال المعرفة
يعتبر استقلال المؤسسات، والمؤسسة الجامعية على وجه الخصوص، شرطاً واقفاً لبناء "مجتمع المعرفة"، فقد كشفت تجارب الجامعات العربية عن الحاجة الماسة إلى شرط "الاستقلالية" لإدراك التراكم المطلوب في مجال المعرفة، خصوصاً وأن ترتيبها في سلم الجامعات في العالم، استناداً إلى المعايير الدولية المعتمدة، لا يبعث على الاطمئنان. فالاستقلالية الفعلية المدعومة بمبادئ الكفاءة، والفعالية، والنزاهة، ستمكن من إذكاء روح التنافس المنتج، وستشجع على تحقيق الجودة، وبالنتيجة ستخلق شروط النهضة المعرفية اللاّزمة لبناء "مجتمع المعرفة".. الفريضة الغائبة في البلاد العربية. ونعتقد، في هذا السياق، أن من مداخل الانتقال إلى هذا الوضع الجديد (الاستقلالية) إقامةُ جسر موصول بين "مجتمع المعرفة" ومؤسسات صنع القرار، يسمح للعلماء ومنتجي الأفكار بالمحافظة على استقلالهم العلمي والبيداغوجي والإداري والمالي، دون عزلهم عن دوائر القرار التي تعتبر مشاركتُهم في دعمها، بالاقتراحات والخبرة والرأي، لازمة لا مندوحة عنها. فمن اللافت للانتباه في بلادنا تلك الفجوة المهولة بين صناع الفكر وصناع القرار، ففي الوقت الذي تعتبر المؤسسات الجامعية، وما يندرج ضمن مشمولاتها من مخابر ومراكز وفرق بحث، "بيوتَ خبرة"، تلجأ نظمنا السياسية إلى الخبرة الدولية، غير مكترِثة بالإمكانيات المتاحة من أبنائها، كما تجد طائفة من هؤلاء في تردي الأوضاع العلمية والأكاديمية العامة؛ سبباً وجيهاً لاعتماد خيار الهجرة إلى فضاءات علمية جاذِبة ومُحَفِّزة على العطاء العلمي.