لم يعد خافياً واقعُ انكماش المعرفة وضعف انتشارها في البلاد العربية، فمنذ عقود قدم العرب صورة متدنية عن مكانتهم في عالم المعرفة، ومدى مساهمتهم في إنتاجها. فحين نتحدث عن المعرفة، لا نقصد التعليم بمرحلتيه الأولي والإعدادي والثانوي، بل نعني التعليم الجامعي تحديداً، ودور الجامعات ومراكز البحوث والدراسات في إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها، ليس في العلوم الخالصة والدقيقة فحسب، بل أيضا في الاجتماعيات والإنسانيات.. والخطير في الأمر أن كل سنة تمر والفجوة المعرفية بين العرب وغيرهم من المجتمعات تزداد اتساعاً وعمقا، علماً بأن المعطيات الإحصائية والكمية عن حال المعرفة في البلاد العربية واضحة ومعروفة لدى صناع القرار، وشرائح واسعة من المجتمعات، بل إن التقارير الدولية والإقليمية ذات العلاقة لم تتردد في الكشف عن هذا الواقع والتنبيه إلى خطورته الآنية والمستقبلية.
كل سنة تمر والفجوة المعرفية بين العرب وغيرهم من المجتمعات تزداد اتساعاً وعمقا، علماً بأن المعطيات الإحصائية والكمية عن حال المعرفة في البلاد العربية واضحة ومعروفة لدى صناع القرار
نُذكِّر فقط بأن تقرير
التنمية الإنسانية العربية الأول (2002) خلص إلى نقيصة المعرفة في المجال العربي العام، إلى جانب نقيصتي الحرية وتمكين المرأة، هي من أكثر المصادر مسؤولية عن تأخر المنطقة العربية. وقد صدر التقرير الثاني لسنة 2003 خصِّيصاً لتحليل جذور هذه النقيصة، وسُبل التخلص منها. والآن وقد مرت أكثر من 15 عاماً على هذا التقرير، الذي كُتب بعقول وأقلام عربية، لم نتمكن بعد من تيسير وضع أسس بناء النموذج المعرفي المأمول والمطلوب، القادر على نقلنا إلى ركب كوكبة التجارب المعرفية الناجحة، والمساهمة فعلا في البحث والإنتاج العلميين.. حيث ما زلنا، مع الأسف، نراوح مكاننا، بل يجزم الكثيرون بأن جامعاتنا تراجعت أكثر، وشروط الأمان العلمي في العديد من بلداننا تدهورت بفعل القلاقل والتوترات وانعدام الأمن والحرية.
لنقُم بإطلالة على ما يؤكد بالأرقام هذه الصورة الحزينة وغير المقبولة عن واقع المعرفة في بلداننا، كما تداولتها تقارير خبراء التنمية، ونترك التعليق والحكم للقراء الكرام. فعلى سبيل المثال، تُنفق الولايات المتحدة الأمريكية على الأبحاث فيها ما يعادل 35 في المئة من الإنفاق العالمي الإجمالي، بينما لا يتجاوز إنفاق البلاد العربية على
البحث العلمي ما يعادل 0.01 في المئة من إجمالي الدخل القومي، مقابل 4.7 في المئة في إسرائيل. كما أن إنفاق العرب مجتمعين على البحث العلمي سنويا لا يتجاوز 535 مليون دولار، في الوقت الذي أنفقت فيه إسرائيل في سنة 2008 فقط 9 مليار دولار. لذلك، تبدو صورة العرب شاحبة وليست ذات قيمة، إذ لا تتجاوز مساهمتها في التنمية الشاملة والبحث العلمي عالميا 1 في المئة، نظير 35 في المئة للولايات المتحدة، و24 في المئة لليابان، و6 في المئة لإسرائيل، و3 في المئة بالنسبة لأوروبا. لذلك، لم يتجاوز عدد الباحثين في البلاد العربية 318 باحثا لكل مليون نسمة، مقابل خمسة آلاف في الدول المتقدمة. وبحسب تقديرات العالم "أحمد زويل"، لا تتجاوز نسبة الأوراق العلمية المقدمة من البلاد العربية )الجامعات ومراكز البحوث( نسبة 0.0003 في المئة من مجموع الأبحاث التي تقدمها جامعات العالم، ولعل هذا ما يُفسر ترتيبنا المتدني في سلالم تصنيف الجامعات في العالم. وقد كان طبيعيا أن تعرف البلاد العربية منذ عقود؛ نزيفا متزايدا في هجرة الكفاءات والأدمغة إلى مناطق كثيرة في العالم، حيث قدّرت الإحصائيات ذات الصلة أن 31 في المئة من الكفاءات المهاجرة من الدول النامية هم من أصول عربية، يتصدرهم الأطباء والمهندسون، أما وجهتهم فهي بالدرجة الأولى أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) وأوروبا. أما الطلاب الذين يتابعون دراساتهم في الخارج فإن 54 في المئة منهم لا يعودون إلى بلدانهم بعد إنهاء الدراسة.
إنها أرقام محزنة حقا، تؤشر لضمور قيمة المعرفة في منطقتنا العربية، وضعف الإرادة في إقامة نموذج تعليمي قادر على بناء المعرفة وترسيخها وتوطينها في المجتمعات العربية. فما السبيل للخروج من هذا الوضع، والانتقال إلى آخر جديد نوعيا، قادر على تمكين المنطقة من إرساء نموذج معرفي ناجح، ومساهم في العطاء الحضاري الإنساني؟
أرقام محزنة حقا، تؤشر لضمور قيمة المعرفة في منطقتنا العربية، وضعف الإرادة في إقامة نموذج تعليمي قادر على بناء المعرفة وترسيخها وتوطينها في المجتمعات العربية
لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال الكبير ليست وصفة جاهزة، نشتريها بالمال فنَردم فجوة المعرفة في مجتمعاتنا، ونصبح تاليا مؤهلين وقادرين على اكتساب المعرفة وتوطينها في بلداننا.. إن بناء المعرفة إرادة - جماعية بالتحديد - قد تلعب فيها بعض النخب أو الأفراد الأكفاء أدواراً، غير أن نجاحها مرتبط بوجود مشروع مجتمعي واضح الرؤية والأهداف، وبإمكانيات ووسائل كافية، وبتعبئة شاملة خلاقة ومنتظمة، وتخطيط وتصميم على المدى الطويل، ومتابعة وتقييم ومساءلة ومحاسبة دائمة ونزيهة.. بدون هذه المتطلبات يظل بناء مجتمع المعرفة بعيد المنال، ومع استمراره عصياً على الإنجاز سنظل بعيدين عن المراتب المتقدمة والخلاقة للمعرفة الإنسانية، وستتوالى إخفاقاتنا، ويتعمق تأخرنا، وتضعف قوتنا في التأثير في العالم.
يحضرني دائما مثال ماليزيا، وقدوة "محمد مهاتير"، حين يكون الحديث عن التعليم والبحث والمعرفة، والنهضة عموما
يحتاج بناء المشروع المجتمعي المفتاح لإقامة مجتمع المعرفة إلى نساء ورجال ممتلكات وممتلكين لكفاءة الاجتهاد في رسم المشروع، ونزاهة واستقامة النجاح في رسمه؛ لأن بناء المشروع لا يرتبط بالتوفر على كفاءة، وهي مهمة وضرورة، بل رهين أيضا بوجود أخلاق القدوة في الممارسة، والسلوك، والإرادة الصادقة.. لا أعرف لماذا يحضرني دائما مثال ماليزيا، وقدوة "محمد مهاتير"، حين يكون الحديث عن التعليم والبحث والمعرفة، والنهضة عموما. فنجاح ماليزيا في بناء نموذج تعليمي، بقيادة شخصية مقتنعة ومصرة على نهضة بلدها، فتح لها الباب واسعا نحو التقدم، وإلى جانبها تجارب ناجحة من قبيل كوريا الجنوبية، وسنغافورة، واليابان، وإلى حد ما تركيا، وحتى حين بدأ الفساد يعود إلى مفاصل الدولة الماليزية، عاد "محمد مهاتير"، وقد تجاوز التسعين سنة من عمره، ليقول إن على ماليزيا أن تستمر على طريق النهضة وليس على طريق آخر غيره.