منذ أكثر من عشر سنوات، ومهرجان "موازين" يتعرض لموجة نقد عارمة من قبل النخب وجزء مهم من الشعب
المغربي. موجة لم تعرف نسقا واحدا من الرفض، بل تنوعت النخب الرافضة، كما تنوعت زوايا الرفض أيضا.
في البدء، بدأ الاحتجاج أخلاقيا، وكان إعلام الإسلاميين الأسبق لتبني هذا المعيار القيمي في النقد، والاحتكام للمقتضيات القانونية التي تجرم المشاهد المخلة بالحياء. وكان لهذا النقد صداه لدى الجمهور، لا سيما بعد أن أقدم بعض الفنانين الغربيين على ممارسات مخلة بالآداب العامة أثناء أدائهم الفني من على المنصات (كشف أحد الفنانين عن عورته في حفل غنائي). ثم أخذت حالة الاعتراض والرفض سمة أخرى، بعد أن أثير التزامن بين فترة تنظيم مهرجان "موازين"، وفترة الاستعداد للامتحانات الدراسية الخاصة بالبكالوريا، ثم توسعت حالة الرفض واشتدت لما طرح موضوع تمويل المهرجان، وحجم البذخ في الإنفاق على الفنانين، خاصة منهم الأجانب، فأخذ النقد بعدا رقابيا، يتوجه لمساءلة أوجه استخلاص القائمين على المهرجان المال من القطاع الخاص، ولماذا يستفرد مهرجان وحده بهذه الخاصية، والشفافية المالية في عملية الصرف، ومعايير توزيع المكافآت على الفنانين، ثم تطورت حالة الاعتراض لتسائل الشرعية القانونية لاحتكار وسائل الإعلام العمومية التي فرض عليها نقل فعاليات السهرات كاملة خارج دفاتر التحملات الملتزم بها من قبل قنوات القطب العمومي، ودخلت على خط الاعتراض نخبة أهل الفن المقصيين من هذا المهرجان؛ الذين طرحوا زاوية أخرى من الاعتراض، تطرح سؤال: "لماذا خيرنا يأخذه غيرنا؟".
كانت هذه هي حالة الاعتراض لمهرجان "موازين"، وهكذا تطورت خلال أكثر من عقد من الزمن، وحاول القائمون على المهرجان التفاعل مع بعض هذه الانتقادات، والاستجابة لبعضها، إذ أعلنوا، وبشكل حاسم، استقلال موارد مهرجان "موازين" عن المال العام، ومراعاة تزامن المهرجان مع فترة الاستعداد للامتحانات، فضلا عن الاستجابة النسبية لقضية تمثيلية الفنان المغربي مع بقاء الفوارق في المكافآت المالية.
الجديد في حالة الرفض هذه السنة، أنها تحولت إلى حملة مقاطعة شعبية واسعة عمت الفضاء الأزرق، بشكل شبيه للمقاطعة الشعبية لبعض المنتجات الأساسية (حليب سنطرال وماء سيدي علي ومحروقات شركة أفريقيا)، دفعت القائمين على المهرجان للتفكير في استباق بدء المهرجان قبل ثلاثة أيام بفقرة سميت "ما قبل موازين" وذلك لجس نبض المقاطعة، واختبار قوتها من ضعفها، وربما اتخاذ قرار ما بخصوص تنظيم هذا المهجران من عدمه، فشكلت هذه الفقرة صدمة للقائمين عليها، إذ كان الحضور ضعيفا لا يصل حسب بعض المراقبين إلى نسبة 20 في المئة من جمهور "موازين" المعتاد.
اللافت في هذا المهرجان، أنه مجاني، وينقل في كل قنوات الإعلام العمومي، ويقرب فنانين كبار للجمهور المغربي، وينظم ليلا في فترة الصيف، وبدون شك، فإن له أثرا ما على الحركية الاقتصادية في مدينة الرباط، خاصة الفنادق التي تمتلئ عن آخرها في فترة تنظيم المهرجان.
لكن مع ذلك كله، فإن حجة الجمهور أكبر من هذه الاعتبارات التي في الغالب ما يحاول القائمون على هذا المهرجان عرضها بين يدي تسويغ مبرراته ودواعيه وأدواره الاقتصادية والسياسية والثقافية، إذ تنصرف حجة الجمهور إلى نقد جوهري للخلفيات السياسية للمهرجان، وعرض المفارقة الصارخة بين وضعية اجتماعية مأزومة تحتاج للتسوية بسياسات اجتماعية عاجلة، وبين إنفاق باذخ لخلق حالة الفرجة والإلهاء وتكسير اليقظة السياسية المجتمعية.
أخطر ما في حالة الرفض المجتمعي لمهرجان "موازين"؛ أنه هذه المرة لا يناقض تفاصيل المهرجان، ولا تجاوز القائمين عليه للمقتضيات القانونية الخاصة بمراعاة القيم أو مراعاة مقتضيات البث الإعلامي العمومي، ولا قضية العدالة في توزيع الفرص الفنية، ولا الشفافية المالية، وإنما يمضي رأسا إلى الجوهر، أي الاعتراض على المضمون والرسالة السياسية للمهرجان. فجمهور المقاطعين، الذين يحبون الفن، ويحبون بدون شك مختلف التعابير الفنية العالمية، ينتقدون التماهي بين جمعية تنظم المهرجان (جمعية مغرب الثقافات) وبين الدولة، وينتقدون بناء على ذلك، الريع المتبادل الذي يتم بين شركات القطاع الخاص وبين الدولة، فتتداعى هذه الشركات جميعا - وبزر واحد- لتقديم الدعم بسخاء كبير لهذا المهرجان وحده، مقابل الريع الذي تتلقاه، أو إغماض الطرف عنها وعن ممارساتها التجارية أو الضريبية، في الوقت الذي يرى فيه المعترضون أن فائض القيمة التي تضخه هذه الشركات في أرباح مساهميها لا يوجه شيء منه لحل المعضلة الاجتماعية المأزومة.
طبعا لغة المحللين "عالمة"، بينما لغة المقاطعين بسيطة وشعبية وسريعة التداول، تضم معلومات صحيحة وأخرى خاطئة.. لا يهم، إنما المهم هو صحة الرسالة السياسية، وقوة المفارقة، بين مال ضخم يصرف على فناني الخارج لإلهاء الشعب، وشعب مغلوب لم يعد قادرا على شراء مسلتزماته الأساسية بسبب البطالة ومحدودية العيش، ويواجه كل مرة - من طرف المسؤولين السياسيين - بضعف الإمكانيات المالية للدولة، ثم يُطلب منه أن ينخرط في فرجة يرى بأم عينيه أنها تمول بملايين الدراهم.