القضاء هو البوابة الفعلية القادرة على بسط العدل والإنصاف والشعور بالانتماء للوطن، وعدم التخلي عنه؛ لأن العدل كما يُقال "أساس المُلك"، ولهذا الدولة التي تنتشر في ربوعها العدالة تجدها دولة منتجة" وتتباهى بوفرة الخيرات في ربوعها والأمن والسلام في أرجائها، والعكس صحيح تماماً.
ومن هذه المنطلقات المتفق عليها بين العقلاء رأينا عالم الاجتماع المتقدم ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد بن محمد، توفي 808 هـ) يؤكد في مقدمته أنّ "القتل أيضاً مفسد للنّوع، وأنّ الظّلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النّوع".
ومن هذه المنطلقات القانونية والمنطقية والعقلانية، نجد أن الدول المعتبرة لا تُجامل في قضايا القتل والسرقة والاغتصاب، وغيرها من
الجرائم التي تؤدي لتآكل البلدان، وتسعى تلك الدول لتطبيق العدالة على الجميع، دون النظر إلى مكانة الجاني الاجتماعية أو السياسية.
وقبل يومين، أكد متحدث باسم نظام المؤسسات الإصلاحية الإسبانية، أن" إناكي أوردانغارن، زوج الأميرة كريسيتنا، شقيقة الملك فيليبي السادس، دخل إلى سجن بريفا، في مدينة أفالي".
وقبل أسبوع تقريباً، أصدرت المحكمة الإسبانية العليا "حكماً نهائياً على أوردانغارن بالسجن خمس سنوات وعشرة أشهر، بعد إدانته بتهم: الاختلاس، والاحتيال، واستغلال النفوذ، والتهرب الضريبي".
وقضت المحكمة" على زوجته، الأميرة كريسيتنا، بدفع غرامة قدرها 160 ألف دولار لانتفاعها من أرباح زوجها في شركة يمتلكها الزوجان، وذلك في نهاية للقضية التي بدأت وقائعها عام 2011، وهزت القصر الملكي الإسباني"!
هذا القرار الجريء للقضاء الإسباني يجعلنا في
العراق نتوقف طويلاً أمام آلاف الحالات التي يسرح فيها المجرم، ويمرح فيها القاتل السارق، بمجرد أن لديه صلة قرابة مع هذا المسؤول أو ذاك.
موضوع الإجرام في العراق لم يتوقف عند مجرد عمليات السرقة والنهب والفساد المالي والإداري، بل وصل إلى تنظيم عصابات للقتل والخطف والاغتيال، ومن المؤكد أن كبار زعماء العصابات هم بعيدون، وفي بروجهم العاتية، ولا يمكن الاقتراب منهم!
المكتشف للإعلام من هذه العصابات هو الجزء الأقل تأثيراً، أو سطوة، ومما تم كشفه من تلك العصابات المرتبطة بكبار المسؤولين في الدولة؛ عصابة قتل واختطاف من بين "أبطالها" ابن شقيق وزير المواصلات، وأخرى داخل وزارة الصحة، وقائدها شقيق وزيرة الصحة، وثالثة عصابة تهريب تابعة لوزير الزراعة، وقبل عدة أشهر اكتشفت عصابة خطف ومخدرات بقيادة ابن محافظ كربلاء، وغيرها المئات من العصابات التي تمارس إجرامها بأوراق رسمية، وسيارات مدنية وعسكرية، بل وتتقاضى رواتبها من الدولة على اعتبار أنهم في واجب وطني، وربما هم في عداد "المجاهدين" في البلد!
الملاحظ أن هذه العصابات تطورت من كونها عصابات محلية إلى عصابات إقليمية، أو ربما دولية، ووصلت جرائمها إلى درجة اختطاف الدبلوماسيين، ومدراء الشركات الأجنبية العاملة في العراق، وبعض المسؤولين المحليين، وآخر هذه الجرائم ما وقع في تركيا قبل عدة أيام، حيث اختطف رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة الأنبار، نعيم الكعود.
مجالات عمليات هذه العصابات الإقليمية يشمل، (فضلاً عن القتل والابتزاز المالي لذوي المخطوفين ودولهم)، سرقة النفط والآثار وتهريب العملة الصعبة وغيرها من صور الإجرام المدمرة لسمعة البلاد ولاقتصادها الوطني!
الحقيقة المؤلمة أن بعض زعماء هذه العصابات وعناصرها هم بمناصب مهمة في الدولة العراقية، ولا يسيرون إلا بمواكب رسمية، بل ولهم سطوة كبيرة في عموم الدولة، وبالذات على القضاء العراقي!
إن استمرار حالة
المحسوبية والصمت الرسمي على الفاسدين لا يمكن أن يبني دولة - أي دولة - ولهذا فالكلمة الفصل ينبغي أن تكون للقضاء الحر النزيه المستقل القادر على إصدار أي حكم ضد أي قاتل، أو مجرم، أو عميل، أو سارق، دون النظر إلى مكانته السياسية أو الاجتماعية، أو صلته بأي مسؤول أو حزب في البلاد.
الانهيار الحقيقي للدول والمجتمعات يبدأ مع ضياع مفهوم العدالة في المجتمع، ويكون البقاء للأقوى، والقانون مع المسنود، والفقير يكون ورقة خريف في مهب الريح حتى لو كان مظلوماً! فهل هكذا تُبنى الدول؟
إن تفعيل دور القضاء في الساحة العراقية، وضرورة إلقاء القبض على حيتان
الفساد وتماسيح القتل والإرهاب، يمكن أن يساهم في بناء الدولة، أما بقاء الأوضاع على الوضع المزري الحالي - وهذا هو المتوقع - فهذا يعني أننا سنبقى ندور في دوامة اللادولة؛ التي تقود إلى ضرب مفهوم المواطنة، والانتماء، وضياع الهوية الوطنية الجامعة للعراقيين!
@jasemj67