قد توقفنا في
الجزء الأول من ھذا المقال عند طرح التساؤل حول كيفية تطور وتعاظم الدور الإقليمي لمجموعة الأيدي الخفية (الإمارات والسعودية ومصر وإسرائيل)، كما أطلق عليھم في ھذه السلسة من المقالات، وطرحنا عدة تساؤلات عن مدى تأثير تلك المجموعة على الأزمة الاقتصادية التركية والانتخابات المصاحبة لھا، وتطرقنا للدور الذي لعبه أعضاء ھذه المجموعة في دعم الانقلاب العسكري في مصر في 2013، وبداية عھد جديد من التوتر مع الرئيس
أردوغان؛ الذي وقف ضد الانقلاب واستضاف الھاربين من جحيمه، وقدم لھم يد العون والمساعدة وتستمر القصة والمأساة.
حصار قطر والأزمة التركية الإسرائيلية
في حزيران/ يونيو 2017، لعبت مجموعة الأيدي الخفية دورا رئيسيا في حصار قطر وتوابعه، متھمة قطر بدعم الصحافة الحرة والمعارضة المصرية ومنظمة حماس، وطالبت قطر بإغلاق قناة الجزيرة وتسليم المعارضين المصريين، وغيرھا من الطلبات التي رفضھا المجتمع الدولي جملة وتفصيلا، ليفشل الحصار فشلا ذريعا ومشينا. ولقد كان للرئيس أردوغان دورا ھاما في الوقوف بجانب قطر وفي دعمھا، مما ساھم في فشل خطة مجموعة الأيدي الخفية وتدميرھا من أساسھا. ولا شك في أن ھذا الدور التركي قد زاد من نقمة تلك المجموعة على الرئيس أردوغان وسياساته؛ التي تقف حائلا أمام فرض سيطرة مجموعة الأيدي الخفية وحلفائھا على المنطقة بأسرھا.
وفي نفس ھذا السياق، لا يمكن تجاھل التدھور الشديد والمستمر في العلاقات التركية الإسرائيلية، والذي يعود حديث عھده إلى ترك الرئيس أردوغان لمؤتمر دافوس؛ رافضا حديث الرئيس الإسرائيلي في 2009، ومعبرا بقوة تحدث عنھا العالم عن رفضه للممارسات الوحشية لإسرائيل ضد المدنيين في غزة. ويستمر تدهور تلك العلاقات عندما قامت البحرية الإسرائيلية بمهاجمة سفينة الإغاثة التركية مرمره، والتي كانت متوجهة في محاولة لكسر الحصار المفروض على غزة وتقديم المساعدات الإنسانية والغذائية المحاصرين، مما نتج عنه وفاة ثمانية من المواطنين الأتراك ومواطن تركي من أصل أمريكي، مما أضاف الأسوأ لتلك العلاقات المتوترة والمختلفة أيديولوجيا وسياسيا.
وحديثا، كان الرئيس رجب طيب أردوغان هو القائد الوحيد في المنطقة الذي وقف وقفة صريحة ضد عملية تهويد القدس، واتخذ قرارا بطرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، وكذلك وصف إسرائيل بدولة إرهابية على خلفية قتلها للمواطنين الفلسطينيين المدنيين العزل في مسيرات العودة.. هذا كله في ظل صمت غريب ومشبوه من غالبية زعماء تلك المنطقة العربية والإسلامية، وعلى رأسهم مجموعة الأيدي الخفية التي ظهرت مبررة للمذابح الإسرائيلية ومعاونة لها في الإعداد لصفقة القرن المشبوهة.
أردوغان القائد الملهم والسياسي الحنك
وحقيقة الأمر، أن الرئيس أردوغان قد ظهر كقائد ملهم متميز ذو ومهارات قيادية طبيعية ومتقدمة، مما جعل الكثير من شعوب العالمين العربي والاسلامي ترى فيه القائد الوحيد والمخلص، بل إنه لقب بالسلطان أردوغان بين عموم الناس وعامتهم، بناء على مواقفه الدائمة لدعم اللاجئين العرب والمسلمين، ودوره ضد السفاح بشار في سوريا، ومساندته الدائمة للحريات والوقوف مع الحق والعدل.
لعبت الدراما التركية أيضا دورا متميزا وخلاقا في استدعاء أمجاد الأمة الإسلامية ،ودور الدولة العثمانية القيادي في ذلك، وتصدرت الأعمال الدرامية الناجحة، مثل قيامة أرطغرل والسلطان محمد الثاني، قوائم المشاهدات وترجمت للعديد من اللغات، مما استحضر أمجاد تلك المرحلة في قلوب ملايين العرب والمسلمين حول العالم، ورأوا في نجاح
تركيا ونهضتها الاقتصادية والعسكرية خلاصا لهم من التبعية والهيمنة الغربية، وعودة لأمجادهم وأمجاد أجدادهم، تلك الصورة والمنظومة التي لا تروق لأعضاء مجموعة الأيدي الخفية، والذين أسسوا قواعد حكمهم غير الديمقراطي على علاقتهم بإسرائيل وبالغرب، في تحد واضح للشارع العربي والاسلامي، ولذلك فقد جيشوا الجيوش الإعلامية والاقتصادية؛ في محاولات لا تنتهي للنيل من أردوغان ومن نظامه الحاكم.
وفي ذات السياق، فشل قادة مجموعة الأيدي الخفية في تقديم أي نموذج قيادي مشابه للنموذج الأردوغاني (Erdogan Leadership Model)، حتى داخل حدود بلادهم، فكان القمع سلاحهم في غالبية الأحيان، والأموال والبذخ المتلون بالغربية، والبعد عن الأصول والدين؛ من صفات نموذجهم الدائم للحكم، والمتلحف بعلاقاتهم ودعمهم لإسرائيل. أضف إلى ذلك، أن الرؤية المستقبلية الأردوغانية 2023 (Erdogan Futuristic Vision)، والتي تحمل الكثير بعد انقضاء تأثير اتفاقية لوزان، حيث يعود لتركيا حقها الطبيعي في السيطرة على الممرات البحرية بين البحر الأسود وبحر مرمرة، وكذلك حق التنقيب عن الغاز والبترول في تلك المناطق، وغيره ذلك، مما يمثل كابوسا مرعبا على الصعيدين السياسي والاقتصادي لأعضاء مجموعة الأيدي الخفية وحلفاؤهم في الغرب، والذين لا يدخرون جهدا في محاولة تحجيم قدرات تركيا بشتى الوسائل ومختلف الأساليب.
تركيا إلى أين المستقبل (Voting the Future on 24 June)
يمكننا مما سبق وتقدم أن نؤكد على أن فلسلفة ورؤية الرئيس رجب طيب أردوغان تمثل قلقا وتهديدا حقيقيا للأنظمة غير الديمقراطية داخل مجموعة الأيدي الخفية (مصر، إسرائيل، الإمارات، السعودية) وحلفاؤها في الغرب، تلك الدول التي ترى أنه لا بد من السيطرة على مقدرات تركيا بأي وسيلة ممكنة، لتتحول تركيا لدولة قمعية فاسدة بلا ديمقراطية ولا رخاء، كما هو الحال في مصر الانقلاب. ولذلك، فالحالة الاقتصادية التركية الحالية ما هي إلا محاولة انقلابية جديدة في ثوب اقتصادي مفضوح.
ولكن تظل الإجابة الحقيقية على سؤال مستقبل تركيا إلى أين في أيدي المواطنين الأتراك، والذين سيتوجهون في 24 حزيران/ يونيو الحالي ليصوتوا على مستقبلهم، والاختيارات واضحة جلية والمؤامرات ظاهرة وعلنية: فإما أن تستمر تركيا في مسيرتها الاقتصادية والسياسية الناجحة والرائدة لكي تتبوأ مكانة عظمى مع رؤية الرئيس أردوغان 2023، أو أن تسقط تركيا في مصائد التبعية والهيمنة الغربية والإسرائيلية والإقليمية متمثلة في مجموعة الأيدي الخفية وحلفائهم، أو على أحسن الأحوال تنتهي تركيا إلى نموذج آخر من الاقتصاد المسموم؛ مماثل للحالة الكارثية المصرية.