لم يكن قرار ترامب تفريق المهاجرين عن أبنائهم مخجلا بالنسبة لقوة عظمى مثل أمريكا، كما لم يكن ممارسة رعناء في حق الإنسانية وشرائعها السماوية والدنيوية، بل مثّل مساءلة حقيقية لما آلت إليه الديمقراطية الأمريكية؛ التي شيّدت في جوهرها على احترام آدمية الإنسان ووجوده. وعلى الرغم من التراجع عن هذا القرار، فإن "السيف سبق العدل"، كما يُقال، وتضرر الكثيرون، وفي مقدمتهم الأطفال، من هذا الإجراء، وأحس العالم بالقرف وهو يسمع الأطفال وهم يبكون فراق أمهاتهم وآبائهم.
لذلك، من يقرأ بعمق كتابَ ألكسيس دوتوكفيل، "الديمقراطية الأمريكية"، ويقارن مع ما شهدته أمريكا في عهد بوش الابن، وما تعيشه في ولاية ترامب، يَلمس كَم كان نظرُ هذا المهاجر الفرنسي إلى الأراضي الجديدة فاحصا وثاقبا؛ وهو يراقب تطورَ بناء الديمقراطية في بلاد كان مِهمازُ الهجرة إليها الحرية بمعناها الواسع والشامل.. فعلى امتداد موجات الهجرة المتتالية، لم يكن "الطُّهرانيون" وحدهم من ضاقوا من انعدام حرية العبادات في أوطاِنهم، فالتمسوا طريقَ البحث عن أرض جديدة يتواصلون فيها مع خالِقهم دون شعور بالخوف، بل وُجد إلى جانبهم من ارتضى الهجرة بحثا عن الرزق والثروة ومراكمة شروط الرفاه.
تضرر الكثيرون، وفي مقدمتهم الأطفال، من هذا الإجراء، وأحس العالم بالقرف وهو يسمع الأطفال وهم يبكون فراق أمهاتهم وآبائهم
تأسست الديمقراطية الأمريكية على فلسفة قوامُها "الحرية اللامتناهية": حرية الإنسان في تفجير طاقاته من أجل الاجتهاد والإبداع والبحث عن الجديد، وحريته المطلقة في أن يجهدَ من أجل تنمية وتطوير شروط عيشه، وحريته في أن يتبارى مع بني جلدِه في إيجاد الإطار الملائم للعيش المشترك، وعلى قاعدة كل ذلك تدرَّج بناء الأمة الأمريكية الجديدة، التي أبدع دوتوكفيل في تفسير عوامل نشوئها وارتقائها إلى الكمال.
وَدَّعت أمريكا القرنَ العشرين ودشَّنت الألفية الجديدة بقدر كبير من التشَوش والإستفهام والإضطراب في صورتها الأصيلة، فقد تغيرت قسماتهُا الكبرى في علاقاتها ببلاد المعمور، واهتزت داخل ولاياتها الشاسعة، وشرع الكثيرون يتساءلون عمّا تبقى من رمزية تمثال الحرية في أمريكا. أتيحت لي فرصة زيارة قرابة عشرين ولاية في الجهات الأمريكية الخمس قبل الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر بخمس سنوات (1996)، وعاودت زيارة هذا البلد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. وعلى الرغم من أنني لم ألمس الفروقات بين التاريخين بسبب قصر الزيارة الأخيرة وانحسارها في مدينة بعينها، فقد شعرت من خلال إجراءات الدخول إلى التراب الأمريكي، وأحاديث الجاليات العاملة فيها، وبعض ما يكتب عن واقع الحريات في أمريكا بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، أن ثمة مفارقات في مآل الديمقراطية الأمريكية.. وأذكر في مناقشات جانبية في رحاب قسم الدراسات الدولية في جامعة كولومبيا، حيث كانت زيارتي الأخيرة (2006)، كثيرا ما أثيرت مفارقتان: تتعلق الأولى بتراجع الحريات المدنية والسياسية داخل أمريكا، وتخص الثانية منطقَ القوة الذي يطبع سياسة أمريكا الخارجية ونزوعها اللاّمتناهي لفرض نموذج من "الديمقراطية" بحدِّ السيف.
ينطوي الدستور الأمريكي (1787) على مجمل الحريات اللاّزمة لحياة الإنسان وعيشه الكريم، وهي في الواقع الحريات التي عزَّ على المهاجرين التمتع بها في أوطانهم الأصلية: حرية الاعتقاد والعبادة، وحرية المبادرة الاقتصادية، وحرية الفكر والتعبير والرأي، وحرية التجمع والاجتماع والانخراط في الشأن العام. وقد أضاف إليها الآباء المؤسسون ما لمسوه صالحا لمجتمعهم الجديد.. وتثبت النقاشات التي مهدت ميلاد الدستور القاري لعام 1787 قيمة واستراتيجية هذه الحريات في فلسفة البناء الجديد للأمة الأمريكية، غير أن ما أعقب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وانتصار التحالف "العسكري الصناعي" وصعود تيار "المحافظين الجدد"، خلق مفارقة بارزة مُضِرَّة بتراث أمريكا في موضوع الحرية والدفاع عنها. وقد لمس الأمريكيون أنفسهم تراجع بلادهم في هذا المجال، حيث عزَّ على أصوات كثيرة الجهر بهذه الحقيقة والتعبير عنها صراحة، في وسائل الإعلام، والجامعات، وكل وسائط الاتصال. والحال أن المفارقة الفاقعة تكمن في ممارسات أمريكا الخارجية، لا سيما في ولايتي الرئيس بوش (2000 - 2008)، حيث تصاعدت، باسم محاربة الإرهاب، موجات القوة والعنف ضد بلاد وشعوب كثيرة، بل دخلت معجم العلاقات الدولية مفاهيم لم تكن مألوفة من قبل، من قبيل "الحرب الاستباقية"، "ونشر الديمقراطية"، و"ومحاربة الدول المارِقة".. بل أُسقِطَت جراء ذلك دول ونُصِّبت أخرى.. والأكثر، رُفِضَت انتخابات على الرغم من ديمقراطية تنظيمها.. وفي المُحصلة، قدَّمت أمريكا صورةَ البلد الناهي والآمِر دون سواها.
اضطرابات في رؤية أمريكا لذاتها ولطبيعة قيادتها للعالم، ولربما لم يحسن الاستراتيجيون الأمريكيون تقديراتهم في تمثل منعطف نهاية القرن العشرين، حين بشروا بـ"نهاية التاريخ"
تعبر المفارقات أعلاه عن حقيقة وجود اضطرابات في رؤية أمريكا لذاتها ولطبيعة قيادتها للعالم، ولربما لم يحسن الاستراتيجيون الأمريكيون تقديراتهم في تمثل منعطف نهاية القرن العشرين، حين بشروا بـ"نهاية التاريخ" وتوحد العالم في المنظومة الليبرالية، واستفراد أمريكا بمصادر القوة في العالم.. والحال، أن الطبيعة تنبُذُ الرأي الواحد وتنشُد التوازن.. فأمريكا في حاجة إلى من يوازنها قوة وفعلا وتأثيرا.. كما أنها في ضرورة قصوى لإعادة التواصل مع تراثها الأصيل: تراث الحرية اللامتناهية.
سعى الديمقراطيون عند عودتهم مع بارك أوباما، على امتداد ولايتين، إلى استعادة صورة أمريكا كما رسمها الآباء المؤسسون، وتعرف عليها العالم وخبرها، غير أن تمكن الجمهوريين من السلطة، بقيادة دونالد ترامب" تحديدا، أعادهم بشكل أكثر قساوة إلى عهد بوش، بل إن ما اقدم عليه رئيسهم الحالي لم يقدر على الإقدام عليه أي رئيس سابق. لذلك، تبدو صورة أمريكا وديمقراطيتها، كما أرادها الآباء المؤسسون، تتجه نحو الزوال التدريجي، لتحل محلها صورة جديدة بقيم جديدة.