هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا للصحافية روكميني كاليماتشي، من "تلكيف" في شمال العراق، عن كيفية تعامل تنظيم الدولة مع الجرائم الصغيرة.
وتقول كاليماتشي إن مسرح الجريمة كان البسطة رقم 200 في السوق التي تقع على بعد ثمانية كيلومترات شمال الموصل، حيث كان زياد عماد خلف (24 عاما) يبيع الدجاج، ويعتاش من ذلك بجانب بسطة لرجل يبيع البصل بالكيلوغرام، وآخر يبيع الدقيق بالمكيال.
ويشير التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أن أحد جنود تنظيم الدولة مر هناك، وهو واحد من آلاف الجنود الذين كانوا يحكمون تلك السهول الشمالية في العراق، وأشار بإصبعه إلى أسمن دجاجة، وقال "تلك"، فقام عماد بذبح الدجاجة ونتف ريشها ونظفها ووزنها، وقال لزبونه إن ثمنها 8000 دينار "7 دولارات"، وتلك كانت بداية المشكلة، حيث يتذكر عماد بالقول: "مد الرجل يده في جيبه وأخرج النقود، وقال: (ليس معي سوى 4000 دينار)، وقال إنه سيدفع لي الباقي غدا، وفي العادة ينتهي الأمر هنا، حيث يكون رجل فقير لم يدفع له رجل أقوى منه حقه".
ويستدرك التقرير بأنه بعد أسبوع من الحادث، الذي وقع عام 2016، فإن عماد قام بفعل شيء يعد جنونا، خاصة أن لمحتلي البلد سمعة بأن لديهم قسوة ليست عليها قيود، وتقدم بشكوى لمحطة الشرطة الإسلامية في البلدة، وفي اليوم التالي جاءه الجندي بسرعة ودفع له بقية ثمن الدجاجة، فكان حلا سريعا ومرتبا وفعالا لجنحة خفيفة كانت ستذهب أدراج الرياح قبل وصول المتطرفين.
وتلفت الصحيفة إلى أن تنظيم الدولة كان يقوم بمحاكمة الجنح الصغيرة بشكل جاد وفعال، ما كان يعد إيجابيا لدى المواطنين، الذين تعودوا قبل ذلك على دفع الرشاوى للشرطة للحصول على مساعدتها في تحصيل حقوقهم.
وتفيد الكاتبة بأن هناك حوالي 400 سجل تركها التنظيم في إحدى محطات الشرطة، وتم تقديمها لصحيفة "نيويورك تايمز"، وتظهر هذه السجلات بأن السكان المحليين لجأوا في العادة للتنظيم لحل مشكلاتهم البسيطة، كما كانت هناك القضية التي رفعها صاحب بقالة على زبون لم يدفع ثمن نصف كيس سكر، وصاحب البيت الذي اشتكى يريد تعويضا عن عملية الدهان غير المتقنة، والرجل الذي اشتكى بأن أحدا ممن يعرفهم ضربه بحذاء.
وبحسب التقرير، فإن الوثائق تظهر بأن تنظيم الدولة كان مستعدا، بل حريصا، على التدخل في تفاصيل حياة الناس اليومية، وفي المقابل أن مئات الناس كانوا يثقون به لحل مشكلاتهم بشكل عادل، بغض النظر عن مدى "تفاهتها".
وتنوه الصحيفة إلى أنه مع أن المناطق التي يسيطر عليها التنظيم هي جزء قليل جدا مما كان يسيطر عليه في السابق، إلا أن الوثائق تلقي الضوء على كيف استطاع التنظيم أن يسيطر على مساحات شاسعة أصلا، وقد تعطي دروسا للمعارك القادمة مع التنظيم، الذي لا يزال يسيطر على 1000 ميل مربع من أراضي سوريا والعراق.
وتكشف كاليماتشي عن أن هذه الوثائق تتألف من آلاف الملفات، التي تم العثور عليها في عدد من المباني التي كانت تستخدمها "الشرطة الإسلامية" في بلدة تلكيف في شمال العراق، وعثرت القوات العراقية على معظم هذه الوثائق عندما حررت المنطقة في أوائل عام 2017، وسلموا هذه الوثائق بدورهم لـ"نيويورك تايمز" لمشاركة العالم فيها.
ويذكر التقرير أن أصحاب البقالات والمتاجر كانوا يلجأون لتنظيم الدولة الذي يحكمهم لتحصيل ديونهم للبضائع، سواء كان ثمن بقرة أو دجاجة أو لحم أو خضار، أو تغيير زيت، أو مدفأة، حيث رفع أحدهم قضية لأن زبونا لم يدفع له ثمن 150 مترا من أسلاك الكهرباء، لافتا إلى أن المزارعين لجأوا للتنظيم للتحقيق في الأضرار التي تسببت بها الماشية لمحاصيلهم الزراعية، وسعوا للحصول على تعويضات لخسارتهم للبطيخ، الذي مشت عليه قطعان الخراف، وقال آخر إن 21 بقرة قامت بتدمير حقله الذي كان قد زرعه حديثا.
وتبين الصحيفة أن ملفات الشرطة، احتوت بالإضافة إلى قضايا مثل سرقة 30 خروفا، على قضايا تشبه كثيرا القضايا في أي مركز شرطة في بلدة صغيرة، فكانت هناك حوادث سيارات، وسرقات بيوت، ورجال يشتبكون بالأيدي، ونقود سرقت من حقيبة سيدة بعد أن تركت باب سيارتها غير مقفل.
وتقول الكاتبة إن بعض القضايا التي كان تتعامل معها الشرطة كانت "تافهة" للغاية، فاشتكى أحدهم مثلا أن ابن جاره ضرب ابنه، وشدد على أن الطفل الذي قام بالضرب كان أكبر من الطفل المضروب، فيما اتهم آخر أحد معارفه بأنه شتمه بكلمة "قواد"، وآخر اشتكى بأن أحدهم شتمه قائلا له إنه "حذاء".
وبحسب التقرير، فإن العدالة كانت تتم بسرعة وبفعالية؛ وذلك لأن لا أحد كان يرغب في المغامرة بأن تتم عقوبته من المتطرفين، مشيرا إلى أنه مع ذلك، فإن حقيقة أن مئات المدنيين العراقيين كانوا مستعدين لرفع الشكاوى، بما في ذلك ضد مقاتلين مع التنظيم، يعني أن بعض العراقيين على الأقل اعتقدوا بأن التنظيم سينصفهم.
وتذكر الصحيفة أنه حتى المواطنون الذين عانوا على أيدي التنظيم مدحوا هذا الجانب، وقالوا إن التنظيم لم يكن عادلا فقط في الخلافات التي لا علاقة لها بالدين، بل كان مستعدا لمعالجة مشكلات كانت سلطات أخرى سترفض النظر فيها، متسائلة: "فهل كانت الحكومة العراقية مستعدة لمتابعة قضية الدجاجة المسروقة؟".
وتنقل كاليماتشي عن علوش عماد، وهو الأخ الأصغر لزياد عماد، قوله: "ما كانوا ليستمعوا حتى للشكوى؛ لأنها كانت حول 4000 دينار فقط.. ويجب أن تكون لك واسطة.. فمن ناحية العدالة كان تنظيم الدولة أفضل من الحكومة".
ويشير التقرير إلى أنه بعد أن رفض المقاتل دفع المبلغ الذي يدين به لعماد، تاجر الدجاج، قام عماد بإغلاق بسطته، ولبس ملابس جديدة، ثم توجه إلى محطة الشرطة في شارع البريد، وكانت هناك عدة خطوات لتقديم شكوى، وكل خطوة هناك طلبات يجب تعبئتها، وهذا كان سر الكم الكبير من الوثائق التي عثر عليها في محطة الشرطة القديمة.
وتفيد الصحيفة بأنه عندما ذهب عماد لتقديم الشكوى فإنه جلس مع رئيس المحطة، الذي استمع إلى شكواه، ثم جر ورقة تحمل اسم الدولة الإسلامية، وكتب بقلم أزرق قضية رقم 329، ثم كتب الأحد الساعة العاشرة صباحا، 22-1-2016، وكتب الشكوى من المدعي زيد عماد خلف، والمدعى عليه بريق، الذي لا يزال يدين بـ4000 دينار عراقي للمدعي بعد أن باعه دجاجة، ثم سحب استمارة أخرى، هي عبارة عن مذكرة استدعاء لمحطة الشرطة، مع تحذير بالعقوبة إن لم يحضر، وأرسل المذكرة مع أحد العاملين على دراجة نارية لإيصالها، وجاء المدعى عليه في اليوم التالي، ودفع المبلغ، وقام رئيس المحطة بكتابة إيصال بنسختين وقعها كل منهما، وبصما عليها.
وتقول الكاتبة: "أخبرنا عبد الوحيد عبدالله من سكان بلدة تلكيف، بأنه كان عليه مبلغ 145 دولارا لابن عمه، الذي نقل له بعض المواد الثقيلة، وأنه دفع له نصف المبلغ، ولكن نفدت نقوده فتوقف عن دفع الأقساط، لكنه فوجئ بأن ابن عمه رفع عليه قضية، وأعطاه تنظيم الدولة تاريخا لدفع المبلغ، وقال إنه لا يهمهم إن لم تكن لديه نقود، فقام ببيع بعض الأخشاب التي كان يريد استخدامها في البناء بخسارة ليدفع دينه".
وينقل التقرير عن عبدالله، قوله إنه كان غاضبا على ابن عمه لفترة، لكنه يعترف بأنه لو لم يكن الأمر وصل إلى رفع القضية ربما لم يكن ليدفع ما كان عليه من نقود.
وتبين الصحيقة أنه عندما كان الخلاف يتعلق بشتم طرف لآخر، أو الاعتداء عليه، فإن تنظيم الدولة كان يؤدي دور مدير المدرسة الذي يطلب من الطالب المشاغب أن يعتذر، فمثلا في القضية رقم 393 مثلا، حيث قام ثلاثة رعاة بإلحاق الضرر بمزارع طلب منهم منع أغنامهم من الدوس على مزروعاته، فكتب الثلاثة تعهدا بعدم الاعتداء على أحمد محمد قادر، وألا يشتموه، وألا يسمحوا لأغنامهم بدخول أرضه، وليكون هذا القرار الذي وقعوا عليه فعالا فإن فقرة أضيفت إليه بأن يتوقعوا عقوبات قانونية إن أخلوا بما أخذوه على أنفسهم.
وتورد كاليماتشي نقلا عن الباحثة في جامعة ييل، مارا ريفكين، التي كانت قد قابلت أكثر من 200 شخص عاشوا تحت حكم التنظيم، قولها إن هم تنظيم الدولة الأول عندما كان يسيطر على منطقة جديدة هو كسب ثقة المدنيين، والحصول على تعاونهم، وكان من بين وسائلهم لفعل ذلك هو توفير العدالة السريعة، وهي أهم وظائف أي دولة، وهو الأمر الذي كان غائبا في ظل الحكومة العراقية.
ويلفت التقرير إلى أن هذا الأمر يؤكده أمير محطة الشرطة في قرية الساهاجي، التي كانت مسؤولة عن منطقة طولها 11 ميلا شمال غرب الموصل، حيث تمت مقابلته في السجن، وقال: "لو نجحنا في توفير العدالة كنا نعرف أننا سنكسب قلوب الناس"، وتحدث كيف بذل جهدا في استرجاع مبلغ 4.5 دولار، وأنه عندما شاع الخبر بدأت الشكاوى حول ديون غير مدفوعة تتوالى، وكان هناك دين قيمته 119 دولارا يعود لعام 2010، أي قبل أن يسيطر تنظيم الدولة على تلكيف بأربعة أعوام، وكان صاحب الدين يريد استرداد ماله قبل حكم تنظيم الدولة، لكن كان المدين يماطل.
وتقول الصحيفة إن رمزي سليم، الذي يحتفظ بدفتر في دكانه، يسجل فيه المبيعات بالدين، يذكر أنه تقدم بثلاث شكاوى للشرطة، منها شكوى على جزار كان مدينا له بـ 136 دولارا، وقال إنه كان يطلب المبلغ منه وكأنه يتسول، لكن بمجرد رفع القضية حلت المشكلة خلال أربعة أيام، ويقول فعل الناس ذلك لأنهم كانوا يخشونهم.
وتذكر الكاتبة أن هناك بعض القضايا، مثل قضية رقم 407، تم تحويلها إلى المحكمة، بحسب ما كتب ضابط الشرطة عليها، وهي شكوى من امرأة قالت إن زوجها ضربها في مكان عام، ففي الوقت الذي كانت فيه الشرطة تحاول حل المشكلة في مركز الشرطة، كانت القضايا التي تعد الأكثر قسوة تحول إلى محكمة إسلامية.
ويكشف التقرير عن أن هناك حوالي 87 نسخة كربونية للتحويل للسجن وجدت في مركز الشرطة، تشير إلى حالات سجن لأسباب دينية، كأن يكون الرجل حلق ذقنه، أو أزال شعرا من حاجبيه، وحتى الجلوس بالقرب من امرأة، أو الاختلاء بامرأة، أو لبس ملابس ضيقة، أو عدم طاعة الوالدين، وتم الحكم على عدد منهم بسبب الإساءة لسمعة الدولة الإسلامية.
وتختم "نيويورك تايمز" تقريرها بالإشارة إلى أن هناك أيضا قضية الشخص سيئ الحظ، الذي صدر بحقه أمر تحويل للسجن رقم 001646، حيث وجهت له ست تهم مرة واحدة، وتذكر الاستمارة أنه اعتقل في 2016؛ بسبب التدخين ولعب الورق ولعب الدومينو وتدخين النرجيلة، بالإضافة إلى امتلاك أو مشاهدة أفلام جنسية وأغان، (ولا تذكر الاستمارة ما إذا كان وقع في هذه المخالفات كلها مرة واحدة، أو أنه كان قد وقع فيها على مدى فترة من الزمن).