تقرع الولايات المتّحدة علناً أجراس حرب اقتصاديّة ضدّ تركيا، رغم إصرار الطّرفين (التّركي والأمريكي) على صفة الحليف. وسيكون لهذه الحرب الاقتصاديّة تداعيات قد تطيح بهذه الصّفة، وعبّر أردوغان عن ذلك في خطابه بوضوح: "نقول لمن يدعم المنظّمات الإرهابيّة مع السّلامة"، في خطاب يحمل تحدّياً واضحاً، ليس للعقوبات الاقتصادية فحسب، إنّما للسياسة الأمريكيّة عموماً تجاه تركيا. فقد تألّمت تركيّا وتوجّعت منها كثيراً، ويبدو واضحاً أنّ صبر الأتراك بعد هذه الأوجاع والآلام بدأ ينفد، فلم يعد ممكناً إمساك العصا من المنتصف والوقوف في منطقة رماديّة. فقد يكون هبوط الليرة القشّة التي تقصم بعير علاقات الحلفاء، وقد يكون بيضة القبّان التي تعيد المياه لمجاريها، فمصالح الطّرفين يصعب التّفريط بها من قبلهما معاً.
إنّ تراجع سعر صرف الليرة (وفق قناعة الأتراك) سببه مؤامرة، حيث أكّد الرّئيس التركي أنّه ناجم عن حرب سياسيّة، وذلك سيدفعه للبحث عن أسواق جديدة وحلفاء آخرين.
هل يضحي الأتراك بإدلب، ويقدمونها هديّةً للروس والإيرانيين، يثبتون من خلالها تماشي تركيا مع سياسة الحليفين الجديدين في سوريا؟!
ولا شكّ أنّ روسيا والصّين وإيران في مقدمة الحلفاء الآخرين الذين عناهم الرّئيس التّركي، وهنا تطلّ الأزمة السّورية لتشكل اختباراً حقيقيّاً للعلاقة مع الحلفاء الجدد، ولا سيما أنّ روسيا وإيران تدعمان النّظام السّوري الذي يقرع طبول الحرب لاقتحام
إدلب، عقب سيطرته على الجنوب السّوري كاملاً.
فهل يضحي الأتراك بإدلب، ويقدمونها هديّةً للروس والإيرانيين، يثبتون من خلالها تماشي تركيا مع سياسة الحليفين الجديدين في
سوريا؟!
إنَّ نتائج وتداعيات خلاف تركيا مع الولايات المتّحدة تجيب على هذا السّؤال، فالحكومة التّركيّة التي رفضت سياسة التّابع والمتبوع مع الولايات المتّحدة، أقوى قوّة عسكريّة واقتصاديّة في العالم، لن تقبل أن تسلك هذه السّياسة مع روسيا وإيران أو غيرهما، ويدرك الرّوس والإيرانيون الذين يجيدون الصّيد في الماء العكر هذه الحقيقة جيّداً، فالأتراك الذين أبدوا استعداداً للتخلي عن الشّراكة مع الولايات المتّحدة ما لم تبدأ باحترام سيادة بلدهم وتدرك المخاطر التي تواجهها، يسهل عليهم الاستغناء عن حلفاء يريدون تركيّا تابعاً.
وعليه، فإنّ الرّوس والإيرانيين سيمنعون النّظام السّوري من القيام بأي عمليّة عسكريّة باتّجاه إدلب على الأقل مؤقتاً، ريثما يتضح أفق العلاقة بين تركيّا والولايات المتّحدة، وسيعملون على مدّ الجسور وعرض المساعدة لمواجهة سياسات الولايات المتحدة.
الرّوس والإيرانيون سيمنعون النّظام السّوري من القيام بأي عمليّة عسكريّة باتّجاه إدلب على الأقل مؤقتاً، ريثما يتضح أفق العلاقة بين تركيّا والولايات المتّحدة
ويعرف الحلفاء الجدد والأتراك أنّ أيّة عمليّة عسكريّة على إدلب والشّمال السّوري سيكون لها ارتدادات أمنيّة واقتصاديّة على الدّاخل التّركي، تفوق تأثيرات هبوط الليرة، وهذا جزء ممّا أشار له وزير الخارجية التركي، عندما أكّد أنّ الوضع في الشّرق الأوسط غير جيّد.
وما يؤكد استبعاد خيار التّضحية بإدلب الممارسات والنّشاطات المتسارعة التي تقوم بها تركيا على الأرض، فقد أسهمت تركيا في تشكيل الجيش الوطني شمال سوريا بعدد يقدّر بـ35 ألف مقاتل من فصائل الشّمال، وأسهمت في توحيد فصائل إدلب والفصائل المهاجرة إليها في الجبهة الوطنيّة للتحرير التي زاد عدد مقاتليها عن 70 ألفاً. ويجري الحديث الآن عن دمج الجيش الوطني والجبهة الوطنيّة للتحرير في جسم عسكري واحد، وكلّ ذلك يتمّ بدعم ورعاية تركيّة، وهذا ما أشار له الرّئيس التّركي بقوله: "قمنا بتسريع جهودنا العسكريّة والدّبلوماسيّة كي لا يحدث في إدلب ما حصل في المناطق الأخرى".
ويجهد الأتراك في حل معضلة "
فتح الشّام"، إذ سيعزف الروس والإيرانيون عليها كثيراً، وقد يستخدمونها مبرراً للانقلاب على تفاهماتهم مع تركيا إذا سارت الرياح بما لا يشتهون، وربما هذا ما قصده أردوغان عندما قال: أوشكنا على استكمال استعداداتنا
لإضافة مناطق جديدة إلى المناطق التي حققنا الأمن فيها في سوريا عبر عمليتي درع الفرات وغصن الزّيتون.
يجهد الأتراك في حل معضلة "فتح الشّام"، إذ سيعزف الروس والإيرانيون عليها كثيراً، وقد يستخدمونها مبرراً للانقلاب على تفاهماتهم مع تركيا إذا سارت الرياح بما لا يشتهون
فقد تقوم تركيا بعمليّة عسكريّة ضد "فتح الشّام" تجبرها على حلّ نفسها، أو التّوصل لصيغة معينة تبعد ذريعة التّطرف والإرهاب عن إدلب.
ولسنا في صدد بيان العوامل الأخرى المانعة لقيام
عمليّة عسكريّة واسعة ضدّ إدلب، فهي كثيرة، إنما يدور الحديث هنا عن الدّور التّركي في ظلّ هبوط سعر صرف الليرة التّركيّة.
فإدلب بالون الاختبار الذي سيثبت استقلال القرار السّيادي التّركي من جهة، ويثبت أنّ العقل السّياسي التّركي لن يخضع لابتزازات الاقتصاد.