هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كان إعلامنا (وهو تجهيل وتبغيل) يمنُّ علينا بأن بلادنا الشمّاء بلاد أمان واستقرار، والفضل فيه لزعيم واحد هو بيضة القبان وحجر سنمار، وأنها بلاد قوانين راسخة وثابتة، وإن كانت تمشي الهوينى بلا عجلات في طريق ضاع فيها المجداف والملاّح.
وكان هناك (من غير كان يا ما كان) قبل سنوات، في شهور الثورة الأولى، وقد أكلتنا الحرب بأنيابها الضروس، محلل سياسي يظهر على التلفزيونات العربية ويقول إنه يتوقع أن السيد الرئيس سيعالج البلاد بالصدمة، أي أن هناك حزمة برسيم، ورزمة قرارات تبْنِيّة ستصدر من القصر، تجعل المواطن السوري محسوداً من المواطن السويسري، وسيستدعي المواطن رئيس فرع الأمن بالهاتف ليشرب عنده فنجان قهوة في البيت، ثم يحبسه في القبو، ويصاب رئيس الفرع بالسكتة القبرية، وعندما يسأل أهل المفقود عنه، يقول المواطن: أصيب بالسكتة القلبية، أما الجثة فقد اختفت.
منذ أيام شاهدت برنامجين في الجزيرة الوثائقية؛ الأول عنوانه "العلاج بالوهم"، والثاني بعنوان "العلاج بالتحدي". الحصة الأولى تتحدث عن إيهام المريض بإعطائه أدوية وهمية للخلاص من مرضه الوبيل. اكتشف هذا العلاج في الحرب العالمية الثانية، عندما انتهى المورفين، فحقن طبيب مرضاه بالماء المالح على أنه مورفين، وقد انطلت الحيلة على ثلث المرضى. البرنامج يقول: إنه يمكن معالجة السرطان بحبة أسبرين، بل بحبة سكر، أو كاراميلا.
أما العلاج بالثانية، أي بمرهم التحدي، فيتحدى فيه المريض العقاقير والأدوية ويستغني عنها بقوة الجأش والعزم على قهر المرض. وقلت، بعد أن حلفت بالذي برأ النسمة وفلق الحبة: إن حكوماتنا حكيمة، فقد كانت تعالجنا بالدواءين مدة نصف قرن، فكانت دائماً تحقننا بمنقوع الرأسمالية الطفيلية، وتوهمنا بأنه اشتراكية، وتوهم الشعب المعطاء للرئيس وأسرته وحاشيته وشبيحته وبلاطجته؛ بأنّه يعيش في هناء وسعادة، وأما الحرب مع العدو فمؤجلة لحين التوازن الاستراتيجي.
وأمور أخرى مثل: إن رئيس البلاد ليس كمثله، ويستحق أن يحكم العالم، لكن العالم غبي وساذج، ولم يهتد بعد، وضربت عليه الذلة والمسكنة، وإلا كانت شعوبها بلاد العالم المتنوعة طلبت الانضمام إلى الإدارة المحلية لجمهورياتنا، وأمثالها في ممالكنا السعيدة، ولا نعرف حتى الآن كيف طمس الله على عيون الغربيين، حتى يخيل إلى السامع أن أنجيلا ميركل ستلجأ إلى بلادنا، وتتخلى عن الرئاسة في ألمانيا، وترضى بأن تكون وزيرة ثقافة عند بشار الأسد، وأن ماكرون سيسعى جهده بأن يكون حاجباً في القصر الجمهوري تحت لواء عبد الفتاح السيسي، ينعم بمباهج أم الدنيا، وأن رغبة الإمبراطور الياباني هيفي أن يعيش آخر أيامه في القرداحة؛ راضياً بحق الجنسية السورية، ويعيش في "تبات ونبات" في حضن المزرعة السعيدة لولا حب الوطن والعيش في بلد الزلازل.
لكني بعد أن ضربت الأخماس بالأسداس، على طاولة نرد الأقدار السعيدة، وجدت أننا كنا سعداء، كنا عايشين أسعد عيشة، ونعالج بالصدمة تلو الصدمة. والعلاج بالصدمة علاج لا يوصى به إلا في حالات اليأس من الشفاء، فكثيراً ما كان المواطن يصدم بصدمات وصفعات مثل المخباط في صغائر الأمور وعظامها.
في الصغائر لا يعرف المواطن المسكين ما هي القوانين، التي عليه تجنبها، فكيف بالأمور الاستراتيجية، وما هي عقوبة شتم الرئيس أو انتقاده، التي قد تطول ثلاث سنوات، أو قد تستغرق العمر كله؟
فالمواطن مثلاً لم يكن يعلم أن تحميل المكتبة الشاملة جريمة، وقد حبس عليها مواطنون كثر، أما عظائم الأمور، مثل تغيير الدستور وتوريث الجمهورية للابن، فلها كلام آخر، ثم تحققت نبوءة المحلل السياسي السوري بالعلاج بالصدمة بعد المظاهرات، وذلك بإلقاء البراميل على المدن السورية، وقتل أعداد لا حصر لها، سعياً وراء التجانس والجمهورية الفاضلة.
في سابقات الأيام إبان حكم كلينتون، كان الأسد يجري محادثات مع إسرائيل، وقطع فاروق الشرع ملايين الكيلومترات جواً من أجل السلام، ولقب الرئيس حافظ الأسد نفسه ببطل الحرب والسلام، وكان الشعب السوري قد أشرب في قلبه العداء لإسرائيل، وعداء مغتصب القدس غريزة أساسية لديه، وروج النظام للسلام مع إسرائيل، فهمس بعض الشباب همسات مازحة ضد السلام، ليس بسبب الغريزة الأصلية، وإنما بسبب جرعة العداء التي سببها فيروس الإعلام المقاوم والممانع، فاعتقلوا.
وهذا شائع في البلاد العربية، ففي مصر، سيق كل الذين حصلوا على مناصب بعد الثورة إلى السجون والمعتقلات، بمن فيهم رئيس الجمهورية والسادة الوزراء، وهم من أشرف الناس، بل وقتلوا على أعين الناس والشمس ضحى، لا بل إن النظام نكل بمناصريه الثوريين من الاشتراكيين، أمثال أحمد دومة، وأحمد ماهر، ووائل عباس وغيرهم، وكانت صدمة ما بعدها صدمة.
وفي السعودية، وهي بلاد شديدة المحافظة، يعيش شعبها في علب تشبه علب السردين، صدم الشعب بتغيير قواعد التوريث، فأبعد ولي العهد، وحل ولي ولي العهد محله، مقابل قبلة على اليد. لكن الصدمة ليست هنا، الصدمة كانت في تغيير الأعداء، فالعدو كان اليهود والنصارى، ثم صار الصفويين الشيعة، وحالياً رسا أوكازيون الصدمات على العدو القطري، والإخوان المسلمين وصار اسمهم الخوارج.
قطع عادل، ومحمد، وميرنا، في برنامج "العلاج بالتحدي" الوثائقي، شوطا في مواجهة السرطان، يواجه الأول السرطان بالنباتات، والثاني باللايكات على فيسبوك، مستمداً الشجاعة من مؤازرة الأصدقاء، وهو هنا يشبه العلاج بالوهم في البرنامج الثاني، أما أنظمتنا الموقرة، فتشبه دلالي العقارات، الذين يحولون عشة الفراخ إلى قصر باكنغهام بالكلمات الرنانة.
حتى يسهل للطاغية حافظ الأسد حكم واحد من أعند الشعوب العربية فإنه فرض قانون الطوارئ والأحكام العرفية، وهو ما يفعله السيسي. أما الملك السعودي فلا يحتاج إلى هذا العلاج، ويستغني عنها بالشريعة وطاعة ولي الأمر: "وإن جلد ظهرك وأكل مالك".. وأمس طرأ عليه تعديل دوائي في صيدلية الطاعة والفقه السلطاني: "وإن زنا وشرب الخمر".
ويمكن أن نلخص أنواع العلاج الاستبدادية باسم "العلاج بالجزمة". وتسميه السلطات الاستبدادية بصراحة "العلاج بالصرماية"، كناية عن إذلال وإهانة الشعوب، طريقا وحيدا وسهلا لحكمها. لقد انتهى مورفين البعث الاشتراكي والعروبة.
يبادر أحيانا المواطن السعيد إلى تجنب الإهانة وفق وصية "الوقاية خير من العلاج"، فينتعل الجزمة في رأسه، حتى يعيش كريما من الأذى وعرضه صيّن أكرم الصيانة.
الشعوب الأبيّة صارت شعوبا سبيّة.