التوقعات السياسية مثل الحسابات الإحصائية، تعتمد على عدد من الاحتمالات والسيناريوهات المختلفة. فكل السيناريوهات واردة، ولكن بدرجات مختلفة، ولذلك تُبنى السياسات على أساس قاعدة "ماذا لو".
ولا شك في أن كل مراكز الأبحاث المهمة ووزارات الخارجية في الدول المحترمة لا تعتمد على احتمال واحد فقط تبني عليه استراتيجيتها، وإنما على مجموعة احتمالات متضادة ومجموعة من الخطط البديلة. ولهذا ينبغي التفكير مليا في شكل العالم في حال
عزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعدما ازدادت احتمالات هذا الأمر في الآونة الأخيرة.
لقد جاء
ترامب إلى البيت الأبيض بعاصفة سياسية؛ أعمى غبارها كثيرين وشكلت صدمة في أوساط العالم. ولا شك في أن رحيله عن البيت الأبيض سيكون بعاصفة أخرى مقابلة، فهي
سابقة هامة في تاريخ الولايات المتحدة، إذ ليس من المرجح أن يقدم ترامب استقالته استشعارا بالحرج، مثلما فعل الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون على خلفية فضيحة "ووتر جيت" عام 1974. تقول مجلة فورين بوليسي الأمريكية في عددها الشهر الماضي؛ إن مجيء ترامب للسلطة لم يكن أمرا واردا بشكل كبير لكنه حدث، ويبدو أن احتمال عزله بات قريبا.
لا شك في أن رحيله عن البيت الأبيض سيكون بعاصفة أخرى مقابلة، فهي سابقة هامة في تاريخ الولايات المتحدة، إذ ليس من المرجح أن يقدم ترامب استقالته استشعارا بالحرج
وفي حال تم عزله، فإن الأمر سيشكل ضربة قوية لقوى
اليمين المتطرف الشعبوي الصاعد غربا وشرقا، وخاصة في أوروبا. فهذه التجربة محسوبة على هذا التيار، سواء شاؤوا أم أبوا. فقد صنع مجيء هذا الرجل للسلطة حالة امتد أثرها للعديد من الدول، منها بريطانيا التي صوتت للخروج من الاتحاد الأوروبي؛ انحيازا لحملة "بريكست" التي لم تخفِ وجهها اليميني، لدرجة أن الوزيرة السابقة عن حزب المحافظين البارونة سعيدة وارسي؛ انسحبت من الحزب واتهمته بالإسلاموفوبيا.
وإذا أضفنا لذلك التداعيات الكارثية الحالية لنتيجة هذه الاستفتاء، فإن عزل ترامب سيزيد من عزلة هذا التيار، ويكشفه أمام الرأي العام الغربي الذي راهن عليه انتخابيا مؤخرا لتقديم بديل سياسي خارج الصندوق لإصلاح الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
سيشكل عزل ترامب أيضا قبلة الحياة لحركة الحقوق المدنية الأمريكية، وانتصارا مرحليا لمبادئها، الأمر الذي سينعكس أثره على ملايين من المسلمين وغير البيض في المجتمع الأمريكي؛ الذين مثلت لهم الفترة الماضية بعد مجيء ترامب كابوسا على مستوى الحريات والاندماج داخل المجتمع. وفي الوقت نفسه، سيكون هذا المصير درسا قاسيا لأي رئيس أو سياسي أمريكي في المستقبل كي لا يحاول الاستثمار في المناخ اليمني المتعصب، أملا في حشد مزيد من أصوات على حساب قيم الحريات والديمقراطية. وسيكون هذا الدرس بالغ الوضوح لدى نائب الرئيس الحالي مايك بنس. فعلى الرغم من أنه ليس بأقل سوءا من ترامب على مستوى الخطاب السياسي، إلا أنه سيكون في موقف يصعب فيه الاستمرار على النهج الترامبي ذاته في الفترة المتبقية من حكم الجمهوريين.
على مستوى إسرائيل، فإن الخسارة قد تكون كبيرة بالفعل، فلم تكن تحلم تل أبيب أن يأتي رجل مثل ترامب، بكل صلفه وغروره، لينقل السفارة الأمريكية للقدس
لا أتصور أن الأمر سيحدث فارقا كبيرا لدى الدول الفاعلة في المنطقة مثل تركيا وإيران، وذلك لأن هذه الدول لديها من الخبرة الدبلوماسية والقوة العسكرية والاستخباراتية ما يمكنها من التعامل مع ترامب وغيره من الرؤساء، وهو نهج تتبعه الآن. وبالتالي، قد تحدث تهدئة للقصف الإعلامي المتبادل، لكن أشك أن يحدث تغير جذري في السياسيات الأمريكية تجاه هذين البلدين. لكن على مستوى إسرائيل، فإن الخسارة قد تكون كبيرة بالفعل، فلم تكن تحلم تل أبيب أن يأتي رجل مثل ترامب، بكل صلفه وغروره، لينقل السفارة الأمريكية للقدس، ويقدم صهره ليعقد الصفقات تحت الطاولة وفوقها في المنطقة لصالح إسرائيل. ولهذا، فإن كثيرا من الخطط الإسرائيلية في التعامل مع العديد من الملفات قد تتعرقل.
التغيير الأكبر فأتصور أنه سيكون في القضاء على أمل الجمهوريين في الفوز بانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2020، أي بعد عامين، الأمر الذي سيمهد الطريق لوجه ديموقراطي جديد
الأوضاع في مصر والسعودية والخليج بشكل عام مرتبطة بالعوامل الداخلية والإقليمية أكثر من ارتباطها بتوجهات الإدارة الأمريكية. فقد وقع الانقلاب في مصر أثناء إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مثلا، ولذلك أستبعد أن يلقي عزل ترامب بظلال كثيفة على أوضاع هذه الدول، ما لم تحدث تغيرات داخلية دراماتيكية.
أما التغيير الأكبر فأتصور أنه سيكون في القضاء على أمل الجمهوريين في الفوز بانتخابات
الرئاسة الأمريكية عام 2020، أي بعد عامين، الأمر الذي سيمهد الطريق لوجه ديموقراطي جديد، ستكون لديه شجاعة أكبر من أوباما في التعامل مع كثير من الملفات الداخلية والخارجية، بعد أن كسرت رئاسة ترامب كثيرا من المحرمات في السياسية، وجعلت أية قرارت لأي رئيس تبدو عادية بعد كل ما فعله ويفعله ترامب.