تطور الموقف التركي في الشهر الثاني من جريمة قتل جمال خاشقجي داخل
القنصلية
السعودية في إسطنبول. في الشهر الأول شهدنا تسريبات كثيرة عن الجريمة
وتفاصيلها وتصريحات ومواقف تركية رسمية علنية حذرة قليلة.. انعكس المشهد تقريبا في
الشهر الثاني، حيث بتنا أمام تسريبات أقل وتصريحات أكثر لعرض وشرح المقاربة
التركية للجريمة، ودائما وفق الأسس والقواعد ذاتها التي لازمتها منذ اليوم الأول
لوقوع الجريمة.
في
الشهر الأول، وكما قلنا في مقال سابق، فقد كانت المواقف التركية حذرة حريصة على
البقاء في المربع الرسمي المؤسساتي الدبلوماسي، وهدفت إلى توفير الوقت اللازم أمام
الجهات والهيئات القضائية التي تحقق في الجريمة؛ للوصول إلى استنتاجات صلبة وراسخة
بناء على المعطيات الأدلة التي راكمتها وتوصلت إليها، وسعت في المقابل لتأكيد
حرصها على
العلاقات مع السعودية، وأنها لا تستهدف الرياض، ولا تعتبر نفسها في معركة
معها، بينما تسعى للوصول إلى الحقيقة في ما يتعلق بالجريمة التي وقعت على أراضيها،
وتتنافى مع اتفاقية فيينا الناظمة والحاكمة للتبادل الدبلوماسي بين الدول، شرط
احترام وعدم تجاوز القوانين المحلية الدولية، وممارسة العمل القنصلي الدبلوماسي
المنوط بها فقط.
أما
التسريبات لوسائل الإعلام المحلية والدولية، فقد هدفت إلى حث السعودية دفعها
للتعاون مع التحقيق التركي، وتقديم روايتها لما حصل مع جمال في القنصلية، كما
السعي للحصول على ردود فعل دولية غربية مساندة للموقف التركي، وضاغطة أيضا على
الرياض لتحقيق نفس الهدف.
هذه
المقاربة بدت واضحة في خطاب الرئيس أردوغان أمام الكتلة البرلمانية لحزب العدالة
والتنمية في 23 تشرين الأول/ أكتوبر، بتأكيده على العلاقات الجيدة مع السعودية،
والحرص على التعاون التواصل مع الملك سلمان للوصول للحقيقة، والحذر من تقديم أي
استنتاجات قاطعة أو اتهامات لأي طرف؛ بانتظار صدورها أولا عن الجهات المعنية
بالتحقيق، وتحديدا المدعي العام المشرف على القضية، لكن مع التأكيد طبعا على أن
خاشقجي قتل في القنصلية بناء على خطة معدة سلفا.
نقطة
التحول، أو بالأحرى التطور في الموقف التركي؛ جاء مع إعلان المدعي العام نفسه
عرفان فيدان، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر، عن النتائج الأولية للتحقيق، إثر الزيارة
الفاشلة للنائب العام السعودي لإسطنبول. وقال فيدان في بيان رسمي إنه بناء على
التحقيق والأدلة التي تم التوصل إليها، فإن جمال قد قتل خنقا بمجرد دخوله
القنصلية، ثم تم تقطيع الجثة وإخفائها، وأن القتل كان متعمدا ومحضرا ومخططا له
بشكل مسبق.
بعدها
اختلفت المقاربة التركية الرسمية بدرجة كبيرة.. شهدنا تصريحات واضحة وبسقف مرتفع،
وربما حتى هجومية أكثر للرئيس أردوغان ووزير الخارجية شاويش أوغلو ووزير العدل عبد
الحميد أوغلو، ومسؤولين آخرين في الحزب الحاكم؛ كلها تستند أو تنطلق من خلاصة
المدعي العام التي أعلنها رسميا.
المقاربة
التركية المتطورة والمحدثة لخصّها الرئيس أردوغان في مقاله بواشنطن بوست الجمعة
الماضية (2 تشرين الثاني/نوفمبر)، حيث طرح ثلاثة أسئلة ومطالب محددة مختصرة على
الجانب السعودي: أين جثة جمال؟ ومن المتعامل المحلي المزعوم الذي تم تسليمها إليه؟
ومن المسؤول السياسي الذي أعطى أمر الاغتيال؟ مع طلب تسليم المتهمين الـ18
لمحاكمتهم في إسطنبول، حيث ارتكبت الجريمة، بشكل شفاف ونزيه وعادل وعلني.
أمر
لافت في المقاربة التركية الجديدة تمثل كذلك في السعي لتحييد الملك سلمان، مع يقين
الرئيس أردوغان بأنه ما كان ليصدر أمرا كهذا (القتل)، مع التأكيد من جهة أخرى على
أن الأوامر صدرت من جهات سعودية عليا، في إشارة غير مباشرة لولي العهد السعودي
محمد بن سلمان، الحاكم المتنفذ الذي يدير الشؤون اليومية للمملكة.
في
المقابل، باتت التسريبات التركية أقل، وتهدف - كما الشهر الأول - لدفع الرياض
لمزيد من التعاون مع التحقيق، مع الإشارة إلى أن أنقرة تملك معطيات وأدلة لم تكشف
عنها؛ كونها تفضل أن تبادر الرياض بنفسها للإجابة على الأسئلة وتقديم التسهيلات
للتحقيق المفترض أنه مشترك بين الجانبين.
المواقف
والتسريبات تهدف مجتمعة إلى الحفاظ على القضية حية، كما للحصول على الدعم
والمساندة الدولية الضرورية للمطالب التركية الثلاثة التي باتت تمثل قواسم مشتركة
دولية تجاه قضية أو جريمة خاشقجي.
سياسيا،
ستستمر أنقرة في الفترة المقبلة في مساعيها للعمل مع الرياض، ومع الملك سلمان
تحديدا، من أجل تطور التجاوب السعودي، كما جرى في المرة الأولى؛ من الإنكار التام
إلى الاعتراف بالجريمة، والآن لا بد من مواصلة التعاون للكشف عن كافة التفاصيل
المتعلقة بالجريمة، كما ستواصل
تركيا حرصها على عدم الصدام أو فتح معركة مع
السعودية، وستبذل كل جهد وتعطيها الوقت اللازم للتعاون؛ للوصول معا للحقيقة، وإلا
فإنها ستعلن وحدها عن النتائج وتصورها للإجابات؛ في حال تمنع السعودية عن فعل ذلك.
سياسيا،
ولكن في الاتجاه الدولي، تعرف أنقرة أن الغرب يملك قدرة أكبر للضغط على الرياض،
وهي فعلا أشركت العواصم المؤثرة الفاعلة بما لديها من وثائق وأدلة، وستكون حريصة
على التنسيق وعدم اتخاذ أي خطوات ذات بعد سياسي إلا بالتشاور معها، لضمان الحصول
على الدعم التأييد والمساندة عند الحاجة.
ببساطة،
ستظل تركيا حذرة في حركتها ما بين السياسي والقضائي ستعطي التحقيقات المدى الزمني
اللازم مع كل الدعم طبعا، ستستمر في مساعيها للوصول مع السعودية بشكل ثنائي مشترك
لإجابات للأسئلة المطرحة، وإذا لم يحدث ستضطر للإجابة عليها وحدها، لكن دون عداء
مع السعودية، طبعا بإحاطة مساندة دولية كاملة لموقفها المحق سياسيا وقانونيا.