استأثرت تجربة الحركة الإسلامية المغربية المشاركة في العملية السياسية بكم هائل من الدراسات، وأصبحت بحكم نجاحها في تجربة الإندماج السياسي، وفي المحافظة على وجودها داخل مربع الحكم، ومن موقع قيادة الحكومة لتجربتين، محط دراسة وتأمل من طرف العديد من الحركات الإسلامية التي تعيش وضعا مشابها لها أو مختلفا عنها.
ضعف في حركة التأليف
وخلافا للمدرسة الحركية المشرقية، التي تميزت بتدفق حركة التأريخ لها من داخل التنظيم، وكذا حركة التنظير لمقولاتها وأدبياتها وتطور كسبها وإشعاعها الفكري والحركي، فقد تميزت الحركة الإسلامية المغربية بضعف حركة التأليف المواكب لمراجعاتها ومفاهيمها وتطور كسبها الفكري والسياسي، فباستثناء الجهود المحدودة التي بذلها كل من الأستاذ محمد يتيم وأيضا الدكتور سعد الدين العثماني، وأيضا الدكتور أحمد الريسوني ضمن فضاء أعم نسبيا عن الرؤية الحركية، فإن أغلب تراثها الفكري والسياسي، وحتى تجربتها، بقيت خارج حركة التأريخ الذاتي، وفي أحسن الأحوال ضمن الحكي الشفوي في المؤتمرات واللقاءات الإشعاعية أو اللقاءات التواصلية سواء منها ذات الطابع العام أو الخاص.
وعلى الرغم من أن المهندس محمد الحمداوي ليس كاتبا ولا مفكرا بالمعني الدقيق، بحكم اقترابه أكثر من حقل التنظيم، فإن تجربته في رئاسة حركة التوحيد والإصلاح لأكثر من ولايتين (عشر سنوات تقريبا)، مكنته من الإنفتاح على الكتابة، من موقع التوجيه والترشيد، وأحيانا من موقع إبراز بعض المراجعات وأثرها في صوغ التجربة الحركية المغربية، وأيضا في التنبيه على بعض المفاهيم والرؤى التي ساهمت في بلورة رؤية الحركة وخياراتها الاستراتيجية.
وقد بدأت أول تجربته في الكتابة، أو للدقة، في تحرير بعض أفكاره وتجربته، مع كتاب "الرسالية في العمل الإسلامي استيعاب ومدافعة"، ثم تلاها بتجربة ثانية هي كتابه: "العمل الإسلامي بدائل وخيارات"، حاول من خلاله ترصيد أفكاره السابقة، وإضافة أبعاد أخرى إليها متممة، ساهمت بشكل عام في رسم ملامح إحدى أهم المدارس المغربية في العمل الإسلامي.
الأولويات التي ينبغي للحركة الإسلامية أن تشتغل عليها، يجب أن تنصب على تعزيز مشروعية المؤسسات وتحصين مكتسباتها
ونظرا لأهمية الكتاب، وكونه يختصر أهم المراجعات والتوجهات التي تحملها الحركة الإسلامية المغربية، فضلا عن ثمرة وخلاصة تجربة عقد من الزمن في رئاسة حركة التوحيد والإصلاح، بعد تجربة الوحدة بين حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، فسنحاول في هذه المراجعة تقديم هذا الكتاب للقارئ حتى يطل على التجربة ويقرأها من مشكاة داخلية، تستحضر سياقات التجربة من وجهة نظر أحد قياداتها، وسيروراتها وتراكماتها المختلفة بارتباط مع سياقها الإجتماعي والسياسي.
المراجعة والتجديد
منذ البدء، يفصح الحمداوي عن هدفه من تأليف الكتاب، فهو يندرج ضمن تنهيج العمل الإسلامي وترشيده وبناء عقلية حركية تعتمد التنسيب وديمومة فعل المراجعة والبحث عن البدائل والخيارات، ومواجهة ثقافة الإحتجاج أو الانفعال بشروط الواقع، كما يهدف إلى رفع كفاءة وأهلية العمل الإسلامي والفعل الإصلاحي للحركة الإسلامية، حتى تبصم الحاضر في شتى المجالات ببصمات الإصلاح الوسطي التراكمي، وتستشرف المستقبل بأعمال ومبادرات ووظائف توسع المجال الحيوي للحركة الإسلامية لاسيما في المناطق التي تجد ممانعة للخيار الإصلاحي التراكمي.
وضمن هذا السياق، يعتبر الحمداوي أن الأولويات التي ينبغي للحركة الإسلامية أن تشتغل عليها، يجب أن تنصب على تعزيز مشروعية المؤسسات وتحصين مكتسباتها، وإبقاء روح الشورى والتوافقات الكبرى حية، تُميّز مختلف المنعطفات الحاسمة التي تمر منها الحركة الإسلامية، والحاجة إلى العناية بالنخب الثقافية المنتجة لخطاب وثقافة وأعمال حاملة لمقومات المنافسة، والسعي الجاد لإحداث نقلة نوعية في محاورة الفكرة الإصلاحية للواقع الحي والمتفاعل مع أطروحات أخرى، والعمل على تخفيف الذات التنظيمية من أثقالها، والتفرغ لمواجهة التحديات التي تواجهها.
دروس من تجربة الحركة الإسلامية المغربية
يقدم الحمداوي في هذا الكتاب دروسا مهمة في تجربة الحركة الإسلامية المغربية، ويسلط الضوء على تجربة الوحدة بين حركتين إسلاميتين ودمجهما في إطار حركة التوحيد والإصلاح، ويتوقف عند منطلقاتها وركائزها الثلاثة، المتمثلة في المرجعية للكتاب والسنة، والمسؤولية بالإنتخاب، والقرار الشوري، كما يستعرض الصيغة الإنتقالية التي اعتمدتها، وترسخ بعض الثنائيات في فكر الحركة وكسبها، من قبيل التلازم بين الوحدة والتجديد، والتلازم أيضا بين الوحدة والشورى، ويبرز الصعوبات التي واجهت مسار الوحدة، والكلفة التي كادت تتكبدها من جراء الفشل المفترض، لينتهي بعد ذلك لرصد أثر الوحدة في تبلور مشروع حركة التوحيد والإصلاح، ورؤيتها الفكرية لعلاقة التنظيم بالمشروع الإصلاحي، وبلورة وظائف الحركة، والتأسيس لتجربة التخصصات، والتمايز بين وظائف الحركة والحزب، وإحداث القطيعة مع التنظيم الشمولي، لجهة اعتماد مفهوم وحدة المشروع الرسالي، وتعدد التخصصات التي تتطلع إلى المساهمة فيه، وتعدد وظائفها وتمايز هيئاتها وقياداتها.
وينبه الحمداوي من خلال تجربته، على أن فعل التجديد، لم يكن، ولا ينبغي أن يكون بالنسبة للحركة الإسلامية كسبا اضطراريا، تجيب به عن تحديات عارضة وملجئة، بل لا بد أن يكون استباقيا واستشرافيا يلازمها في كل مراحلها، ويضرب المثل في ذلك، بالتنظير الإستباقي الذي قامت به الحركة لتأصيل فكرة المشاركة السياسية، والمراجعات التي استبقت بها هذه العميلة، كما يمثل لذلك أيضا بالمراجعات التي حصلت على مستوى الموقف من الدولة، وأيضا على مستوى أهداف مشروع الحركة الإسلامية، بين إقامة الدولة الإسلامية وبين إقامة الدين، وكيف اختارت الحركة الإسلامية مراجعة هدف إقامة الدولة الإسلامية، واختارت هدف الإسهام في إقامة الدين، كما يشير أيضا إلى مفهوم المشاركة الشامل الذي اعتمدته الحركة الإسلامية المغربية، متجاوزة بذلك فكرة الرهان على المشاركة السياسية باعتباره المدخل الوحيد للإصلاح.
فعل التجديد، لم يكن، ولا ينبغي أن يكون بالنسبة للحركة الإسلامية كسبا اضطراريا، تجيب به عن تحديات عارضة وملجئة، بل لا بد أن يكون استباقيا واستشرافيا
ويركز الحمداوي على قضية مركزية في فكر الحركة الإسلامية المغربية وكسبها، وهي القطع مع المشيخة، وفكرة خلود القيادات في المسؤولية، ويبرز أهمية هذه المراجعة للثقافة الحركية الاستبدادية، مبينا بهذا الخصوص مخاطر الحرص على المسؤوليات وأثرها في تعطيل المبادرات، وتعطيل التجديد، وقتل النخب.
ويناقش الحمداوي، بقدر كبير من الصراحة والوضوح الجدل الذي يثار دائما في الدوائر الحركية بين مشروعية الإنتخاب، والمشروعية التاريخية المستندة إلى فكرة السابقة والفضل، وينتصر للمشروعية الإنتخابية، مع إرساء معادلة دقيقة في التعامل مع ذوي السابقة والفضل لحفظ مكانتهم ووضعهم الاعتباري، وتشجيعهم على فكرة العطاء بعد الإعفاء والقطع مع منطق العطالة بعد مغادرة سفينة القيادة.
وينبه الحمداوي إلى معضلة أخرى تواجه التنظيم الحركي، وتتمثل في موقف التنظيم من المبادرات التي تخرج من خارج دائرة القيادة. فبعد أن يعرض لصنفي المبادرين، المنفعلين برفض مبادراتهم، والصابرين على بطء وتيرة التنظيم وببروقراطيته، يحذر التنظيم والمبادرين معا، من مخاطر خلق شروط إقبار المبادرات، سواء بالإنفعال من جانب المبادرين وعدم فهم طبيعة التنظيم وحاجته للإقناع الدائم والصبر، أو بهيمنة ثقافة المحافظة داخل التنظيم، والتي تدفع بعض القيادات إلى عدم التفاعل الإيجابي والسريع مع هذه المبادرات.
ويلفت الحمداوي الإهتمام مرة أخرى، إلى التطور الذي حصل في أهداف الحركة الإسلامية، وضرورة ترصيده وتحقيق تراكم علمي فيه، ينير طريقها ويبصرها بشروط الفعل في المجتمع والواقع.
فبعد أن كان هدفها منصبا في بواكير الصحوة الإسلامية على نشر التدين والرفع من مستواه، فقد تحركت بوصلتها، بعد حدوث تحولات كبرى في الخارطة الدينية، وخارطة الفاعلين فيها، في اتجاه التركيز على قضية تعميق وترشيد التدين، البارزة مؤشراته في المجتمع، والإهتمام بالآليات البحثية والرصدية التي تكشف توجهات الحالة الدينية ومؤشراتها وتوجهاتها، وأهم التحديات التي تواجهها، ونقاط التوتر التي تحكم مخرجات أهم الفاعلين في رسم صورة التدين في البلاد وفي التأثير عليها.
إقرأ أيضا: المغرب.. إسلاميون في الحكومة وليس في الحكم