عرض مهرجان "إدفا" الدولي للأفلام الوثائقية، المقام حاليا في أمستردام، فيلما مهما بعنوان "وطن جديد"، يتناول تجربة معسكر شبابي لبعض أبناء المهاجرين الجدد إلى كندا. ولفت نظري سلوك مضطرب لدى أحد المراهقين المشاركين في المعسكر، مما استدعى طرده من المعسكر وإعادته لأسرته قبل انتهاء المعسكر. وخلال تحليل بعض الضيوف على سلوك المشاركين، اتضح أن تعرُض هذا المراهق لظروف الخوف والقلق في معسكرات اللاجئين قبل وصوله لكندا؛ أكسبه بعض الصفات العدوانية وعدم الثقة بالنفس. وكان واضحا أن هذا المراهق بحاجة إلى برنامج دعم نفسي ليتجاوز هذه الأزمة، ويصبح قادرا على التعامل الصحي مع أقرانه.
أثار هذا الفيلم قضية هامة، وهي الحالة النفسية لكثيرٍ ممن يتعرضون لضغوط التقلبات السياسية ومشاكل اللجوء والشتات. وتتفاقم المشكلة لأنها لا تحظى بالاهتمام الكافي، بسبب أن المرض النفسي أساسا لا يلقى الاهتمام والعناية ذاتها التي يحظى بها المرض العضوي. وهذا ينطبق على المجال الصحي في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء. والمشاكل النفسية ليست مرتبطة بالغنى والفقر، لكنها تتناسب طرديا مع درجة الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني. ولهذا، فإن مناطق الحروب والنزاعات مليئة بالأمراض النفسية التي لا يلتفت إليها أحد.
فمع صعود موجات الثورة المضادة في العالم العربي منذ عام 2013، زادت نسبة الإحباط عند كثيرين، وتحول الأمر إلى موجات اكتئاب بسبب المشاكل السياسية ،مصحوبة بمشاكل اقتصادية واجتماعية متفاقمة، الأمر الذي أدى لانتحار كثير من الشباب في بلدان مختلفة، ووصل الأمر إلى حد تفشي ظاهرة
الانتحار في بلد مثل تونس، وهو البلد الأقل تضررا من موجات الثورة المضادة مقارنة بغيره من البلدان. وربما سمح قدر من الشفافية في تونس بنشر مثل هذه الأرقام والتقارير؛ التي قد تكون أضعافا مضاعفة في بلدان أخرى لا تسمح بالبحث الميداني في مثل هذه القضايا.
ليس هناك شك في أن الأمر مشكلة عالمية، إذ تقول منظمة الصحة العالمية في تقرير لها العام الماضي إن هناك أكثر من 300 مليون إنسان يعانون من الاكتئاب حول العالم، بزيادة قدرها 18 في المئة عن الفترة الواقعة بين عامي 2005 و2015. كما نشرت صحيفة الغارديان البريطانية في شهر حزيران/ يونيو الماضي؛ دراسة مفادها أن معدلات الاكتئاب هي الأعلى بين مواطني دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشرق أوروبا. لكن يختلف تعاطي كل دولة مع هذه الظاهرة المرعبة، من تعيين وزيري دولة في بريطانيا لهذا الغرض وحتى التجاهل التام في معظم بلداننا العربية.
سيكون من الصعب ممارسة ضغوط على معظم الحكومات العربية غير الديمقراطية كي تلتفت لهذا الملف. ولذا، ليس هناك مهرب من أن يقوم الناس أنفسهم بهذا الأمر عبر مبادرات أهلية ومشاريع توعية.
هناك تجربة وليدة مع السوريين مثلا، وهي تأسيس الجمعية السورية للصحة النفسية التي تقوم ببعض التوعية والإرشاد في هذا المجال، لكنها ليست كافية بالطبع لتغطي ملايين الحالات في الداخل السوري والمهجر. وهي بداية جيدة لمثل هذه الجهود على أي حال.
حديثنا منصب بشكل رئيسي على دائرة واسعة تشمل الملايين المتأثرين نفسيا بشكل سلبي؛ بسبب توالي أخبار القتل والدمار وتجربة الهجرة القسرية والملاحقات الأمنية، لكن هناك حديثا يطول عن فئات محددة تحتاج دعما متخصصا؛ مثل السجناء السياسيين الذين يتعرضون لظروف اعتقال قاسية تترك ندبات نفسية عميقة فيهم، حتى بعد خروجهم. وهذه الفئات من الضروري أن تسعى بنفسها للحصول على الإرشاد النفسي، وتجاوز الحاجز التقليدي الذي يصم كل من يذهب للطبيب أو المعالج النفسي بصفات مشينة.