هذا سؤال في الاحتمالات الماثلة أمام التجربة
التونسية التي تتأخر في بناء نظامها الحزبي المتكافئ، نسجا على تجارب البناء الديمقراطي الغربي كما نتابعها منذ قرن، والتي قامت على وجود
أحزاب متنافسة، بل أن الأنظمة الشمولية نفسها عملت بواسطة تنظيم الناس في أحزاب وحيدة، لكن التأطير كان ضروريا للدكتاتورية كما للديمقراطية.
الملاحَظ الآن في تونس، وبعد سنوات
الثورة والحرية السياسية المطلقة، أن تجربة التنظم الحزبي تعاني عوائق بنيوية يظهر في فشل الأبنية الحزبية في التحول من حوانيت معزولة إلى أحزاب شعبية ذات وزن؛ تقتحم به الانتخابات وتربح وتنافس برلمانيا، كما في كل التجارب العريقة. نعتقد أن هذا الفشل يديم مرحلة الإرهاصات السابقة أو الممهدة لديمقراطية مستقرة ودائمة، ولا نستبعد الردة على
الديمقراطية لفشل النخب في التأطير أمام شارع متوثب. لكن قبل بناء توقعات متشائمة، لنبحث عن مبررات لهذا الفشل، فلهذا الفشل أسباب وسنحاول تفكيك بعضها باختصار..
1- ميراث الدكتاتورية
عانت الساحة السياسية التونسية من المنع طويلا، فستون سنة من الاستقلال لم تعرف مشهدا حزبيا معتدلا. كان بورقيبة قد قضى على حالة تعددية موروثة منذ الاستعمار تحت يافطة الوحدة القومية، واستمر في منع التنظم الحزبي المستقل حتى خروجه من السلطة. وواصل ابن علي من بعده التجربة، مختلقا لنفسه معارضة على قياسه تتلقى تمويلا من عنده وتكتب في جرائد يصدرها بنفسه. وواصل كلاهما مطاردة كل محاولة تنظم من خارج رغبتهما (حزب وحيد ليس أكثر من شبكة مخبرين تكمل عمل وزارة الداخلية في الرقابة على أرواح الناس)، فكان منع
اليسار، ثم لما تم استدراك اليسار وتحويل أغلبه إلى مخبرين، اتجه المنع إلى
الإسلاميين منذ أعلنوا عن وجودهم السياسي سنة1981.
بعد الثورة، ظل هذا الميراث يلقي بظلاله على المشهد، فلم يفلح اليسار في التوحد في جبهة حقيقية مع الطيف الديمقراطي، ولم تنشأ حالة حزبية مستقلة عن صراع اليسار والإسلاميين، وباءت كل محاولات الطريق الثالث بينهما حتى الآن بالفشل.. افتقدت النخب المال الضروري لتأسيس الأحزاب، ولكنها افتقدت أيضا تصورات ديمقراطية تقوم على التعدد والاختلاف والتعايش، وهي النقطة التي ورثتها عن نظام بورقيبة- ابن علي؛ القائم أصلا على رفض الاختلاف ومطاردته. ويمكن القول إن الروح البورقيبية الإقصائية قد صارت خلفية تفكير لكل متحزب تونسي إلا قليل غير مؤثر، وهو ما يحيلنا إلى العائق البنيوي الأكبر في فشل الحالة الحزبية في تونس.
2- ثقل الأيديولوجيا (والفكر الكلياني)
الميلاد الأول لحياة حزبية في تونس كان قبل الاستقلال، وكان مطبوعا بالصراع بين الأصالة والتحديث، كما لو أنهما لا يكونان معا أبدا. وهذه بداية أدلجة العمل السياسي في تونس (وفي الحالة العربية عامة). بعد الاستقلال انتصر شق التحديث بواسطة الدولة، وألغى احتمال إدارة الحوار العقلاني مع أطروحات التأصيل، فكان ميلاد الصوت الواحد القاهر بخلفية أيديولوجيا التحديث؛ التي تفرعت لاحقا إلى حزيبات اليسار، فاستولت عليها من حزب الدستور، وتزعمت مطاردة الإسلاميين الذي ارتدّوا بالخطاب السياسي إلى خطاب فرقة ناجية تقول بجاهلية المجتمع، ولم يُقبل منهم أي تراجع أو نقد ذاتي حتى الآن، فهم مقصيون حتى وهم يتخلون عيانا عن كل روح مشروع الإسلام السياسي الذي ولدوا داخله وتعرضوا بسببه إلى ضنك شديد.
المتاريس الأيديولوجية القائمة الآن تمنع كل لقاء حزبي بين المكونات الموجودة، وتمنع خاصة توسع الكيانات الصغيرة المؤدجلة إلى أحزاب شعبية؛ لأن الأدلجة تشتغل كغربال انتقاء وفرز لكل راغب في التحزب. الغربال الأيديولوجي يعمل بقوة عند اليسار وعند القوميين، فهم الآن فرق ناجية لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها. ونعتقد أن أحزاب الإسلام السياسي تملك نفس الغربال، غير أنها أفلحت في إخفائه وراء خطاب انفتاح وبراغماتية غير منتجة، فالقيادة مبنية وتحكم توزيع أدوارها منذ زمن المتاريس الأيديولوجية.
كان ميراث الدكتاتورية عائقا حقيقيا لقيام أحزاب قوية، ولكن عائق الأيديولوجيا كان عائقا ذاتيا لا يقل عنه أهمية، بل صار هو العائق الأكبر بعد الثورة، حيث تبين أن هناك عوائق ذاتية أخرى؛ منها بالأخص ميل المسيسين إلى البروز والتمتع بالأضواء، على حساب السعي بين الناس لتكوين الأحزاب في القاعدة الشعبية في مجاهل الريف والقرى البعيدة.
3- النجومية أو الزعاماتية
ظهر هذا الصنف من القيادات بعد الثورة وكان بعضهم معروفا قبلها، لكنه كان يتحلى بأخلاق الفرسان الذين يغشون الوغى ويعفون عند المغنم، فلما تبين طريق الحرية لم نجد منهم إلا مصافي المشاش آلفا كل مجزر.. أغرتهم الأضواء والشهرة وبلاتوه الإعلام، فإذا هم زعماء أفذاذ يملكون إجابات جاهزة لكل شيء، ولديهم ألسنة طويلة ضد الحكومات، ويعقدون كل ليلة رايات خفاقة لجيوش في السوشيال ميديا، ولا ينزلون إلى الشارع إلا يوم الانتخابات فيفشلون.
هذه الزعامات القصيرة النظر أعاقت العمل الحزبي الجماهيري؛ لأنه يكلفها اختبارا لعزمها ولصدق أطروحاتها السياسية ولمصداقيتها الأخلاقية. هي تتحول الآن إلى عائق أمام كثير من الأفراد المتحمسين داخل الحزيبات، فتمنع كل نفس نقدي وكل محاولة تجاوز نحو توحيد العمل السياسي في كتل متفقة على حدود دنيا مرحلية.
لا تبدو هذه الزعامات في وارد التراجع عن زعاماتها أو التخلي عن نجوميتها، فهي مربحة، وهي الطريق الوحيدة للبقاء تحت الأضواء والتمتع بالشهرة والجلوس مع عليّة القوم من أصحاب المال والسفارات. إنها عائق حقيقي للبناء الديمقراطي في مرحلة ما بعد الثورة، ويجب انتظار وقت طويل للتحرر منها. والحقيقة أن كل دورة انتخابية مرت بتونس نظفت الطريق من عدد مهول من الزعامات الصغيرة المغرورة، وهي في جوهرها أقرب إلى ديوك المزابل؛ مزهوة بريشها فيما سيقانها تنكش الأوساخ.
4- أفق ديمقراطية بدون أحزاب
إذا ألغيت الأحزاب فلن يكون ذلك إلا في أفق إلغاء الدولة نفسها. هذا خيال فلسفي يبتعد عن علم الاجتماع، ليقترب من يوطوبيا رومانسية ترى الناس قادرين على العيش بحرية خارج الدولة (كما لو أننا نستعيد حالة الطبيعة كما تخيلها جون جاك روسو لا كما تخيلها توماس هوبز). حتى الآن، لدينا حزب واحد يحسن تنظيم نفسه وتأطير الشارع على هواه، بينما تقف بقية المجموعات شراذم توجه كل جهدها إلى إعاقة الحزب المتماسك وتحاول تفتيته. وهي تبذل في ذلك جهدا لو بذلته في بناء كياناتها لفاقته قوة. طبعا نحن نشاهد تفتت عصابات الحزب الحاكم القديم وقد انفصلت عن الأجهزة الأمنية، فلم تعد قادرة على تهديد أحد بشيء، وانكشف طبعها اللصوصي للناس.
لكن يجب أن لا ننسى أن تأطير الناس ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لدفعهم إلى العمل والتغيير العميق. وهنا في المشهد السياسي التونسي يستوي فعل الحزب المنظم مع أعمال الشراذم الحزبية.. الجميع ليس له بديل تغيير فعلي، وقد وقفنا على نقاش البرلمان في موازنة 2018، فلم نر إلا إعادة إنتاج النظام السابق بصيغه الأشد وحشية تجاه المفقرين من عامة الناس. فلا قوة الحزب المنظم انحازت إلى الفقراء، ولا الشراذم وعت أن تشرذمها أعاقها عن العمل الفعال في البرلمان. هكذا صارت التجربة مأزومة من داخلها بفعل نخبها ذاتها، وليس بتأثير التدخلات الخارجية التي يرمى عليها بالغسيل الوسخ ضمن التبريرات الغبية التي يسوقها الجميع لشعب يرونه (كما يراه بورقيبة المؤسس) ذرات من غبار.
نختصر بألم التجربة التونسية حتى الآن فاشلة (عاجزة عن التقدم)؛ لأن نخبها السياسية نخب فاشلة من اليسار إلى اليمين. والعوائق ليست في فكرة الانتظام الحزبي ذاتها، بل في أن هذه النخب نسخ باهتة من قول المعري: إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء.