نحو ثلاثة عقود مرت على ثورة الإنقاذ الوطني في
السودان، أو الانقلاب في رواية أخرى. ثلاثون سنة كفيلة بأن يتراكم فيه كثير من الغضب ويمهد لاحتجاجات عارمة كالتي نراها، وربما ثورة أخرى. لا أحد يدري، فليس هناك ميعاد للثورة. ولكن طبقا لنظرية الكاتب البريطاني جون برادلي، فإن الدول التي تشهد حالات مأزومة لها دورة من الثورات تتكرر كل ثلاثين سنة. وقد طبق هذه النظرية في كتابه "في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا ثورة"، وتنبأ بأحداث ثورة يناير (في عام 2008)، بل وتنبأ بوصول الإخوان للسلطة وانقلاب الجيش بعدها.
وفقا
لحسابات المنطق والعقل والسياسة والاقتصاد، فإن المنطقة العربية لا تنقصها ثورات بعد الموجة الأولى؛ وما جرى فيها من شبه هزيمة لكل القوى الثورية. والسودان شعب مثقف قارئ، يدرك ما يجري حوله، غير أن الانتفاضات والثورات لا تستأذن أحدا. فهي نتيجة لمظالم عديدة؛ أكثر من كونها فعل ينشأ من العدم ويقوم على حسابات منطقية وعقلية دقيقة. وبالتالي، فإن أحدا لم يختَر توقيت اندلاع
مظاهرات السودان. وبالمناسبة، فإن هناك عدة مبادرات ومظاهرات حاولت أن تعيد مشهد الثورات العربية في السودان في 2011 وما بعدها، ولكن لم يكتب لها النجاح.
تغير الوضع الآن بعد أكثر من سبع سنوات، وبدأ التململ الاقتصادي يعبر عن نفسه بأساليب أخرى، حتى في أوروبا؛ ممثلا في حركة السترات الصفراء الفرنسية، والذي وجد إعجابا لدى الجمهور العربي. ويبدو أن السودان كان الوحيد القادر على ترجمة هذا الإعجاب إلى فعل ملموس، فقد انتشرت عدة أخبار في مواقع سودانية خلال الأسابيع الماضية عن نفاد هذه السترات من الأسواق، وسرت الدعوات للتظاهر في المدن السودانية المختلفة. والأمر لا يستند غالبا في استنساخ التجربة الفرنسية، فلا السياق العام متشابه، ولا يتحدث السودانيون اللغة الفرنسية، لكنها الشرارة الصغيرة التي يحتاجها أي غضب مكتوم لينطلق.
تستند
المطالب الشعبية غالبا في مثل هذا النوع من التحركات إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية. وليس خافيا الوضع المتدهور للاقتصاد السوداني وانخفاض قيمة الجنيه هناك في الفترة الأخيرة.. يحدث كل هذا رغم أن الرئيس عمر البشير لم يدخر جهدا في الدخول في كل الأحلاف العربية الممكنة، والمتضادة أحيانا، لتأمين مساعدات خارجية ودعم متنوع. فمن السعودية إلى تركيا وقطر ومصرـ وغيرها من الدول.. عقد الصفقات وجلب الاستثمارات، لكن يبدو أن مشاكل الاقتصاد والسياسة الداخلية لا تصلحها العلاقات الخارجية، فهذه الأخيرة هي مجرد عامل مساعد لا أكثر مهما بلغت قوتها ومتانتها.
لا يوجد محب للسودان يتمنى أن تكون
زيارة البشير لبشار الأسد تغزلا في التجربة السورية التي دشنت مبدأ شنيعا؛ يقضي
ببقاء الحاكم وتقسيم البلاد وتشريد الملايين. فالتركيبة السكانية والقبلية والجغرافية للسودان مرشحة لهذا السيناريو لا قدر الله، وهو بالقطع ليس الإجابة الصحيحة على سؤال الإصلاح الاقتصادي والسياسي، كما أن الدول الراعية للثورة المضادة لن تدخر جهدا في تمويل ودعم أي إجهاض لتجربة ثورة ناجحة.
ورغم كل هذا، فإن الشعوب أقوى من الأنظمة، من ناحية العدد والعدة والشرعية. ولكن المشكلة تكمن في إطار يجمع كلمة هذا الشعب ووسيلة حضارية للتعبير عن رغباته. ونتمنى أن تكون الثورات السودانية في القرن العشرين قد أعطت مخزونا فكريا وسياسيا كافيا للتعلم من أخطاء الماضي، خاصة ثورة أو انقلاب 30 حزيران/ يونيو 1989 . والأهم من ذلك، التعلم من أخطاء إخوتهم في دول الثورات العربية الأخرى قبل سبع سنوات. ومن يدري، فربما نكون على موعد مع شمس جديدة تشرق من السودان تجلي لنا ظلام هذه السبع العجاف.