أشّرت أزمة الشاب عياش المحجوبي؛ إلى روح تضامن عالية تشبك الجزائريين ببعضهم، وإلى حالة من التململ والقرف من أداء نظام سياسي عجز عن إدارة أزمة صغيرة؛ ولم يوفر الأجهزة البسيطة اللازمة
لإنقاذ الشاب الذي اشتلعت قلوب أبناء بلده عليه، في الوقت الذي يحصي فيه عسكر النظام أنفاس الشعب، ويمتلكون أعقد الأجهزة والتقنيات لمراقبة الجزائريين واختراق أسرارهم وخصوصياتهم.
ولم يكن ثمة لزوم للبيان الذي
أصدره الجيش السوداني ويؤكد فيه دعم القيادة السياسة والوقوف معها في وجه أولئك الذين طالبوا بتوفير الخبز، وكان الأجدر نزول هذا
الجيش لحماية هؤلاء الذين يعرضون أنفسهم للمخاطر؛ من أجل أن يحصل الجميع على الخبز. وهل ثمة شيء في الدنيا أهم من حصول بني آدم على الخبز؟
وفي مصر، يحاول السيسي إشغال الناس بألعابه الاستعراضية؛
عبر اختبارات تليق بتلاميذ المدارس يستعرض فيها معرفته، مقابل قلة فهم بعض ضباطه. والغريب أن هذا السيسي الذي يرتكز على العسكر في "ضبطه" (قمعه) للشارع المصري، يحط من قيمة العسكر بهذه الطريقة، مما يثبت حقيقة أن العسكر في هذه الأنظمة ليسوا سوى آلة جامدة وغبية يمكن استعمالها بأكثر من مجال، شرط أن تكون هذه الاستعمالات في خدمة النظام ورأسه.
لقد بات معروفاً أن الزعيم العربي عندما يلوح بإصبعه لجماهيره، فإنه ينذرهم أن الفرق والألوية والكتائب العسكرية جاهزة للانتشار على مفارق الطرق والميادين والساحات واقتحام البيوت، وأن هذه التلويحة، بأصبع الزعيم، هي نفسها التي تحرك تلك الآلة الصماء لتدوس في طريقها كل شيء، ولن تتوقف إذا تحركت، إلا بعد أن يسمع الزعيم صرخات الاستغاثة تملأ المدن والأرياف والدساكر؛ تطالب هذا الزعيم بضبط هذا الوحش المنفلت، وتبدي له من الخضوع ما يسره ويطيب خاطره.
لماذا صدّرت الأنظمة هذه الجيوش في مواجهة شعوبها، وكيف تحوّلت إلى قطعان متوحشة تفتك بالشعوب من دون رحمة.. في سوريا ومصر والجزائر والسودان، وربما في بقية الدول التي لم تختبر شعوبها بعد رحابة صدر حكامها؟
تعرف الأنظمة العربية أنها جميعها، وبدون استثناء، تفتقد للشرعية، وقد وصل أغلبها للسلطة بطرق التفافية معوّجة، وتعرف النخب الرديفة للأنظمة أنها نخب مضروبة ومزوّرة.. فلا رجال الأعمال رجال أعمال حقيقيون، ولا المثقفون كذلك، وحتى مشايخ السلطة وأبواق إعلامها ووجهاؤها الاجتماعيون؛ ليسوا أكثر من هياكل مدهونة بوقار اصطناعي يتم تجديده كل يوم بعد أن تذوّبه شمس النهار.
وتعرف الأنظمة والنخب أن الشعوب تعرف حقيقتها، ومنذ زمن ليس بقليل، وأن ما تقوم به من تزويق وكذب ليس سوى معاندة ووظيفة الهدف منها استقطاب القوى الانتهازية الجديدة التي تدخل سوق الاستغباء، بل إن الكثير من أبناء الشعوب العربية أصابهم الملل من إقناع تلك النخب والأنظمة بأنهم يعرفون حقيقتهم، وأتقنوا قول الصيغ (أطقم الكلام) التي تقال في تمجيد السلطة وأجهزتها ورأسها، لكن الأنظمة تعرف أن خبث الجماهير لا حدود له، لذا تواصل معزوفتها التزويقية حتى بعد أن هجرت الجماهير منابرها ومنصاتها ووسائل إعلامها.
أمام تلك المعرفة، لا يبقى في جعبة الأنظمة شيء له شبهة شرعية سوى الجيوش، على اعتبار أنها تتشكّل من جميع أبناء فئات الشعب، عمال وفلاحين وتجار ومثقفين، واعتبار أن هذا المكون مقدس لأنه يمثل الوطن في كل اتجاهاته، وأنه أكثر من ذلك؛ حامي الوطن من أي خطر يتهدده. وبناء على ذلك، فإنه يملك سلطة تقدير المخاطر ومصادرها، ويقرر اجتثاثها. وعندما يقوم بدوس الشعوب، فهو يفعل ذلك لأجل حمايتها من خطر لا يمكنها رؤيته ولا تقديره. فالجماهير مسكينة يمكن أن تحركها خلايا للموساد أو مخابرات دولية دون أن تشعر، وخاصة عندما تقودها رؤوسها الحامية، وتعتقد أنها تقوم بفعل نضال مطلبي وتدافع عن حق من حقوقها.
لاحظوا أن أغلب الأزمات التي حصلت في
العالم العربي بين السلطات والشعوب تحولت إلى أزمة بين الشعوب والجيوش، وفي كل الأزمات، منذ ما يسمى بـ"العشرية السوداء" في الجزائر، وصولاً لمظاهرات السودان؛ كانت الأنظمة والنخب العربية تقف خلف الجيوش.. تتكفل باجتراح الصيغ التي تقدس كتائب الموت هذه بعبارات من نوع: رجال الله، حماة الوطن، وحتى رجال الله كما ابتدع نظام الأسد، وفي كل هذه الواقعات جرى تصوير الأمر وكأنه حرب ضد هذه الجيوش ومؤامرة عليها، وأن تلك الجيوش انتصرت ومنعت تقسيم البلاد وتدمير كيان الدولة وضياعها.
وهكذا، استطاعت الأنظمة والنخب المتسلطة وضع الجيوش عائقاً في وجه خلاص الشعوب العربية من الإذلال والإفقار، وحوّلتها إلى آلة غبية لا ترحم، ووضعتها في عهدة أجهزة المخابرات تنظمها وتضبطها وتشذبها وتصنع لها عقائد كاذبة وأعداء؛ هما دائماً الشعب والحرية.