تعكس
تعاليم مولانا الصوفيَّة عمق روافده العلميَّة؛ شديدة التنوع والشمول، سواء من العلوم الشرعيَّة أو من العلوم الطبيعيَّة. فقد كان صاحب عناية بالأدبين العربي والفارسي، ناهيك عن تضلُّعه في الفقه والكلام. إلا أنه لا يفتأ ينتقِد أهل
العلم في كل تخصص، سواء من المشتغلين بالعلوم الشرعيَّة أو العلوم الطبيعيَّة؛ مؤكدا على سمو مكانة المعرفة الصوفيَّة على سائر المعارف المكتسبة.
وربما كانت أبرز قصص المثنوي المعنوي (أشهر أعماله على الإطلاق) في هذا الموضوع؛ هي قصة النحوي والملاح. إذ يسخر مولانا من صلف النحوي وعجرفته؛ فبقطع النظر عن معرفة الأخير الواسعة (وعديمة الجدوى؟) بالقضايا النحويَّة، وتعاليه على الملاح الجاهل بهذه المعرفة، فإن النحوي المتحذلق لا يعرف العوم ولا يستطيع استنقاذ نفسه والقارب يغرِق!
وربما كانت الكثرة الملحوظة لاستشهاد المثنوي بالقرآن والسنة، وبصورة أشد كثافة من أي عملٍ صوفي آخر من هذا النوع، فضلا عن احتوائه على عدد جد كبير من المصطلحات الفقهيَّة والإشارات الكلاميَّة؛ تأكيد على أن تصوف مولانا يسير مع الشرع يدا بيد.. من ألفه إلى يائه، وإن كان في حقيقة الأمر يستعمِل أدوات المعرفة الكسبيَّة لنقل المعرفة الوهبيَّة. ومن ثم، فرغم تأكيده على أهميَّة طلب العلم الشرعي الكسبي، بوصفه معيارا للسلوك وميزانا له، فليس من المستغرب إطلاقا أن يجد المرء أن تعاليمه تتضمَّن، إضافة إلى الانشغال الصوفي الكُلي بفناء الذات وإرادتها؛ عدم اكتراث (إن لم يكن تفكيك) بالرسوم الفقهيَّة، وإزدراء بالممارسات المنطقيَّة التي علقت بالشرع، وتحطيم لقيود العقلنة المدرسيَّة التي كبَّلت أرواح المؤمنين.
ومن أشهر القصص التي يتجلى فيها أسلوبه في ذلك، وتبرُز تعاليمه واضحة جليَّة؛ قصة موسى والراعي، لكنَّه يفعل ذلك بأدوات الفقيه المجتهد، المتكلِّم المُجدِّد، وليس بأدوات الجاهل المنافق الذي يروم التفلُّت من الشرع... وشتان!
ولعل في عين قصة موسى والراعي، الذائعة الصيت، تذكير بدعوة الفخر الرازي ربَ العزة أن يميته على إيمان كإيمان عجائز نيسابور.. إيمان تحرَّر فيه القلب من قيود علم الكلام التي فرضها احتكاك العقل بالواقع، وتخفف فيه من السفسطات والتلفيقات المنطقيَّة التي علقت بالدين؛ فجعلت من دين الفطرة تديُّن صنعة.. الإيمان الذي قد يبدأ عند أهل العلم بالمعرفة/ التفقُّه، ثم يتجاوز قوالبها المدرسيَّة، وإن وقف عند الحدود التي عيَّنها الشارع، إذ أكثر أهل العلم هؤلاء عاجزون عن إيمان الفطرة، الذي جُبِل عليه عجائز نيسابور؛ بغير تشقيق للكلام!
ومولانا في مجمل إنتاجه لا يصُبُّ تعاليما أخلاقيَّة في الفراغ، للجمهور العريض من العوام، المنشغلين بالدنيا؛ خارج إطار الطريق الصوفي. إذ أن هذه التعاليم مرتبطة، ارتباطا لا انفصام له؛بالشرع الشريف وبمقتضيات وتكليفات سلوك الطريق إليه سبحانه، وإن لم يمنع هذا من تقاطعها كثيرا مع ما قد يُفيد منه العامة في مناحي الحياة المختلفة.
إن هدف الطريق الصوفي عند مولانا هو تجاوز النفس وحظوظها، وهو من ثم يُبين تفصيلا أن السبيل إلى ذلك إنما يكون بإشراف شيخٍ صوفي قد سبق على الطريق، وتحقَّق به؛ إذ ما من مخلوق بوسعه تجاوز نفسه وحظوظها بمفرده وبغير عونٍ (حاشا الأفذاذ من الأويسيين طبعا، الذين تجاوزوا نفوسهم بجذبة علويَّة)، فالحاجة للشيخ لا تنقضي عبر مراحل الطريق. إذ لا تنقضي حاجة السالِك للنُصح في كيفيَّة المضي على السبيل بغير انحراف عنه، وفي إلهامه بقدوةٍ حسنة قد سبقته في قطع مراحل الطريق، بل ولا تكون الحاجة للشيخ أشد إلحاحا منها في المراحل المتقدِّمة من السلوك إلى الله؛ إذ يكتنف السالِك خطر السقوط في فخ العُجب بما تحقَّق به. لكن لزوم شيخ مُربٍ لا يقتضي بالضرورة لزوم طريقةٍ صوفيَّة مُنظَّمة؛ مما اشتهر بين الناس من الفرق. وإذا كان الشيوخ المفلسون قد اختلطوا بالشيوخ الربانيين؛ فإن الطريق الذي يرسمه مولانا للتمييز بينهما قوامه التعرُّف إلى مدى الطهارة الجوانيَّة، لا الاعتماد على الصور البرانيَّة، والأفعال الظاهرة والادعاءات المتكررة. وهو يؤكد أن مُريدي الشيخ المفلس أنفسهم قد يُحالفهم التوفيق في السلوك إلى الله؛ إن أخلصوا الوجه فدخلوا في رحمة الله تعالى.
وللصوفيَّة عند مولانا وحي أدنى مرتبة من وحي الأنبياء، "وحي القلوب" كما يُسميه؛ وهو في ذلك يتقاطع مع "النور الذي يُلقى في القلب"، والذي وصَّفه أبو حامد الغزالي. إن هذه الفتوحات والخواطر القلبيَّة إذا كانت مُقيَّدة بالشرع؛ فإن مولانا يجعل لها القدح المعلى ويُنزلها منزلة أسمى من سائر أنواع المعرفة الكسبيَّة.
وهو من ثم يسوق باقة متناسقة تمام التناسُق، في شدَّة عنايتها بحال الإنسان الجوانيَّة. ولعل من أمثلتها الشهيرة في المثنوي قصة الهنود الأربعة، الذين فسدت صلاتهم جميعا لأن كل واحدٍ منهم انشغل باستكشاف عيوب أخيه في أداء الفريضة؛ فتلهى عن أدائه هو. إذ يؤكد مولانا دوما على أن أهميَّة تصفية النفس من الشواغل عند الوقوف بين يدي الله؛ تفوق بكثير أهميَّة دقَّة أداء الأركان البرانيَّة للشعيرة، والتي تسقُط بها الفريضة. وهو في ذلك ينتقِد علماء عصره (وكل عصر) إذ اقتصر اهتمامهم على الرسوم البرَّانية للتكاليف الدينيَّة، وغفلوا بالكليَّة عن الأبعاد الجوانيَّة والحالة التي يجب أن يكون عليها الإنسان قبل الشعيرة وأثناءها؛ تمهيدا للثمرة الروحيَّة (والبرانية) التي يقطفها بحُسن الوقوف بين يدي ربه. وربما كانت كثرة تكرار مولانا لمثل هذه الانتقادات راجعة إلى طبيعة جمهور حلقته من طلاب العلوم الشرعيَّة.
وفي المثنوي عناية واضحة بالمعرفة الصوفيَّة، ومثلها الأعلى الإمام على - عليه وآله سلام الله - فهو عند مولانا، كما عند سائر الصوفيَّة؛ المثل البشري الأعلى لإسلام الوجه لله، المثل الذي نهل مباشرة من معين النبوة الشريف، ومن ثم، فهو في ذلك تجسيد حقيقي للحديث القدسي الذي يصف فيه رب العزَّة أولياءه، الذين يتقرَّبون إليه بالنوافِل حتى يُحبهم؛ فيصير سمعهم الذي يسمعون به وبصرهم الذي يُبصرون به. فهو لا يُقدِم على الأمر إلا لله، ويذوب حظ نفسه في نفسه بالكليَّة؛ حتى يصير عبدا ربانيّا.
وقد جعل مولانا لمعرفة الله والقُرب منه، وحسن الفهم والتلقي عنه سبحانه؛ أريجا لا يُدركه إلا صاحبه. وهو يبسط مقصده في روايته لقصة نبي الله يعقوب وولده يوسف عليهما وآلهما السلام. ولعل خلاصة ما يُريد مولانا نقله لمريديه من خلال هذه القصة؛ أن تعاليمه ليست عقليَّة، وإنما تتجاوز ذلك إلى صقل مقدرة المؤمن الذاتيَّة على التلقي والفهم عن الله، ثم إطلاق العنان لهذه المقدرة حتى يخوض كل منهم تجربته الروحيَّة بنفسه. وهؤلاء الذين يمُن الله عليهم بالتوفيق في هذا المسعى؛ تفنى ذواتهم في الحضرة الإلهيَّة، ويصيرون عبادا ربانيين؛ لا إرادة لهم إلا ما أراد الله. فقد فني حظ نفوسهم كما حدث لخلاصة خلاصة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهم لا يثأرون لنفوسهم ولا يتحركون (في الغالب الأعم) بدوافعها الدنيويَّة العاديَّة، ولو ملكوا رقاب أعدائهم؛ وإنما يتحركون لله وحده.
إن الروح التي يُريد مولانا بثَّها لا يبُثَّها في الهواء، وإنما هي روح ينفخها بالأصل في سالك الطريق، ثم في العلوم الكسبيَّة التي حصلها طلابه، وصارت جُثثا هامدة لا روح فيها. إنه لا يُريد منهم هجر العلم وطلبه بالكليَّة، وإنما يُريد منهم البدء به، وتجاوزه كما يتجاوز السالك درجات السلم. تجاوزه تجاوز من يضع الأسس ويواصِل البناء فوقها.. أن يكون العلم درجة يرتقونها عروجا إلى الفهم عن الله سبحانه تعالى، إذ الوقوف عنده تكلُّس لأرواحهم، كما أن في هجره مساواة لهم بالسائمة.