من الواضح أن كثيرا مما تعرضنا له من فجوات يستحق التوقف من جانب حركة اجتماعية كبرى، كالإخوان المسلمين، خاصة بعد أزمة لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار آثارها السلبية التي تعلقت بالوطن والمجتمع. وتضررت الجماعة الوطنية بأسرها، خاصة بعد نظام انقلابي تحول من انقلاب إلى نظام متكامل؛ نستطيع أن نطلق عليه نظام الثالث من يوليو. أبرزت هذه الحالة بعد ثورة فانقلاب؛ فجوات كثيرة في التعامل، وفي القدرة على مواجهة المواقف، وهذا شأن قد لا يخص الإخوان وحدهم، ولكنه يطول المعارضة بأسرها.
إلا أنه من المهم أن نشير إلى خطورة واقع تكررت أزماته ولم تُوثق أحداثه ولا تطوراته، ولا رُصدت تأثيراته ومآلاته، في إطار فجوة أشرنا إليها بشكل عابر، غير أنها تستحق التوقف، ذلك أنه من خلال استعراض ذاكرة الجماعة، فإننا نجد ثقوبا كثيرة ومناطق معتمة لم نستبن منها كثيرا من الأحداث، ولم نتوقف فيها على مزيد من الدروس التي تستفاد، إذ يشكل هذا خطوة جوهرية لأي كيان يمكنه أن يستثمر كل عناصر ذاكرته في التعامل مع المواقف المعقدة والمتشابكة والمستجدة. نقصد بذلك على سبيل المثال ما حدث في العام 1954، وعلاقة جماعة الإخوان بحركة يوليو 1952، والمسائل التي تتعلق بطبيعة هذه العلاقة وتطورها وتحولها، بل وانقلاب شكل هذه العلاقة بصورة أو بأخرى، فأدت إلى أزمة كبرى يمكن تسميتها بحق أزمة العام 1954.
نجد ثقوبا كثيرة ومناطق معتمة لم نستبين منها كثيرا من الأحداث، ولم نتوقف فيها على مزيد من الدروس التي تستفاد، إذ يشكل هذا خطوة جوهرية لأي كيان يمكنه أن يستثمر كل عناصر ذاكرته في التعامل مع المواقف المعقدة
خرجت في هذا المقام روايات متضاربة وسرديات مبتسرة، لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تستبين ماذا حدث بالضبط، ولا تنهض لرواية أو تفسير الأحداث، رغم أهمية التعامل مع هذا المنعطف والتعرف على أسباب الأزمة والتأزيم، حتى يمكننا تجنب الوقوع في تلك المسالك المرة تلو المرة، دون الاستفادة المتكاملة والمتوازنة من الحدث توثيقا وتحقيقا وتبيينا واعتبارا واستثمارا، حتى أن البعض يقول إننا سنعرف ما حدث بعد ثورة يناير حينما نعرف ما حصل بعد حركة يوليو 1952 وما حدث في العام 1954. قد تكون تلك مبالغة، ولكن من المهم التعرف على الأحداث حتى يمكن التعلم منها وعليها.
وقد أشار البعض لى أنه قد تشابهت الظروف وبعض الأمور التي تتعلق بعلاقة الإخوان بالعسكر في تلك الفترة؛ مع ذات الفترة التي أعقبت ثورة يناير، من تأييد ودعم ومساندة إلى تحولات خطيرة أعقبها انقلاب كبير. ورغم أن كثيرين قد رأوا نذر هذا الانقلاب بشكل مبكر، إلا أن بعض المواقف قد ظلت أسيرة انطباعات وتصورات، وربما قناعات - للأسف - لا تقوم على أساس أو تقديرات دقيقة، ومن ثم فإن حركة الإخوان مطالبة بكتابة تاريخها بحلوه ومره، بإسهاماته الكبرى غير المنكرة، وإخفاقاته الكبرى التي لا ينفع فيها ممارسة مسالك الإنكار أو الاستنكار، بل لا بد أن تتحرك الأمور وفق مناهج الاعتبار والاستثمار.
حركة الإخوان مطالبة بكتابة تاريخها بحلوه ومره، بإسهاماته الكبرى غير المنكرة، وإخفاقاته الكبرى التي لا ينفع فيها ممارسة مسالك الإنكار أو الاستنكار
ذلك أن القصة التي تتعلق ببدايات حركة الإخوان والأحداث الكبرى التي صادفتها؛ لا تزال تعاني من الكثير من الغموض، ونظن أن ذلك الغموض (بخلاف ما يدعي البعض) ليس غموضا خلاقا أو ملائما بشأن منعطفات تاريخية ومفاصل حاسمة، سواء كان هذا الغموض يتعلق بالبنى الفكرية أو البنى والممارسات التنظيمية، أو القضايا التي تتعلق بالمسارات الحركية من سياسات وعلاقات وتحالفات. نظن أن الظرف التاريخي، وتدبر أحداثه والوقوف على أسباب الإخفاق قبل النجاح، يشكل نواة أساسية للفهم والاستثمار والعبرة والاستبصار.
ذلك أن توثيق الذاكرة ليس إلا بداية للوقوف على عالم الأحداث والأشياء والأشخاص، في إطار تقويم عادل تستفيد منه الحركة في كل مساراتها الحالية والمستقبلية. ومن هنا، فإن أنواعا من التدبر تتعلق بإدارة الدولة وإدارة المراحل الانتقالية، وإدارة المشاركة وصناعة التحالفات، وإدارة الفرصة، وإدارة التعدد والتنوع والاختلاف، وعمليات التوافق السياسي والتعاقد المجتمعي، وقضايا الكادر السياسي ومستوياته وأشكاله التي تتلاءم وطبيعة المرحلة في إطار من فقه المراحل، وبما يؤصل لمعاني التمايز الوظيفي بين العمل الدعوي وموجبات العمل السياسي، والقضايا الاستراتيجية المتعلقة بالخطاب وبنائه وبنيته في إدارة متمكنة وملائمة للظرف التاريخي، وأزمات القيادة التي قد ترتبط بكل ذلك ودوران النخبة القيادية.. كل هذه الأمور إنما تشكل مسائل أساسية ومفاصل محورية في المسائل التي تتعلق بعمليات التوثيق لحركة مجتمعية كالإخوان المسلمين؛ لابد وأن تملك عناصر ذاكرة واضحة تشكل في حقيقة الأمر أهم معامل ومعالم ممارسة
النقد الذاتي والمراجعات.
ولو غابت عمليات التوثيق لظلت تلك الأزمات على حالها وتراكمت وتفاقمت؛ لأنها لن تجد البيان الواضح والاستثمار الكامل في تخطيط سياسي واستراتيجي لقدرات الحركة وإسهاماتها، خاصة في حال التعامل مع المنعطفات التاريخية، والقدرة على ممارسة المواقف اللائقة والمناسبة لحقائق المراحل المختلفة، وتفهم وتدبر السياقات على تعقدها وتشابكها. والأمر هنا لا يحتمل عناصر استقطاب ومساحات للشجار حول أحداث تاريخية ذهبت أيامها، لكن من الواجب أن تبقى دروسها.
هذه الأمور إنما تشكل مسائل أساسية ومفاصل محورية في المسائل التي تتعلق بعمليات التوثيق لحركة مجتمعية كالإخوان المسلمين؛ لابد وأن تملك عناصر ذاكرة واضحة تشكل في حقيقة الأمر أهم معامل ومعالم ممارسة النقد الذاتي
الأمر إذاً يتعلق بالقدرة على القيام بدارسة الواقع رصدا ووصفا، والتعرف على مشكلاته وتحدياته وأزماته، وعلى مكامن الخطر والفرصة فيه، حتى يمكن تقديم الاستجابات اللائقة، وتفهم الشروط الممكنة واستثمار كافة الأليات والإمكانات المتاحة.
كل هذا إنما يؤهل (مع وجود تلك الذاكرة التوثيقية) وعيا بالأسباب والدوافع، ووعيا بشروط صحة الفعل وبطلانه، بخطئه وصوابه، وبالجملة التعرف على شروط الفاعلية السياسية والخروج من الأزمات بتقديم البدائل المناسبة، ذلك أن تقديم الحلول والبدائل ليس عملية سحرية أو وصفات جاهزة أو أدوية نمطية لأمراض واحدة، فالداء غير الداء، والدواء غير الدواء، بل إن الأمر أبعد من النهوض بمجرد المعرفة، ذلك أن القيام بالتوثيق والتحقيق في الحوادث والذاكرة التي مرت بالحركة يتطلب حالة تحول وحالة تربية وحالة توعية وتثقيف ومسالك تتعلق بالتحريك، لا تقوم بالتعاطي ضمن فقه الأوراق أو البيانات، فما أسهل ذلك وأيسره، ولكنه عمل على الأرض وفي الميدان، ومواجهة مستمرة، وتدبير مخطط وعميق لمواجهة التحديات والأزمات؛ باستنفار الطاقات والفعاليات الذهنية والحركية والمؤسساتية والتنظيمية والشبابية الناهضة، لا العقول الشائخة والجامدة.
إن قضية التوثيق تقدم مادة حيوية للدراسة والفحص والاعتبار والاستثمار للحركة ذاتها، والباحثين في شؤونها، ولكن الحركة يمكن أن تسهم بحق بما توفره من معلومات وما توضحه من عوامل، وما تستفيد به من دروس، وما تقوم به من مراجعات؛ في تشكيل بيئة حيوية للاستجابة في ميدان السياسة بمنطق الفعالية والقدرة على تعظيم مردوداتها، ذلك أن توثيق الذاكرة إنما يشكل قدرات وإمكانيات لفهم الواقع والتخطيط للمستقبل، والاستمرار في مناهج التعتيم ومسالك التعويم والتغييم، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يقدم رؤية واضحة واستفادة واسعة تمكن أي حركة من العمل بفاعلية في الميدان السياسي.