صناعة
القيادة الثورية (4)
بعد أن انتهينا من سرد مواقف اللاعبين الفاعلين إقليميا في المشهد
المصري، والتي تستطيع القيادة الثورية أن تتعامل معها بحسب المعطيات ومواقف كل منها لتحديد موازين القوة والضعف والحلفاء والأعداء وأوزانهم النسبية، للاستفادة من الصديق وتجنب مربعات التقاطع بالنسبة للأعداء، وتحضير وسائل الدفاع اللازم لصد هجماته، بل توجيه ضربات استباقية لتعطيل أدواتها لإفشال حراكها، نبدأ في هذا المقال تحديد الفاعلين الدوليين في المشهد المصري والمؤثرين على أي تغيير ممكن.
ونرى أن الفاعلين الدوليين في المشهد المصري محددين في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعلى رأسه ألمانيا، والكيان الصهيوني. وقد يختلف البعض في وضع الكيان الصهيوني في خانة الفاعلين الدوليين، إذ من المفترض أن يكون في مجموعة الفاعلين الإقليميين، ونرى أن وضعه في هذه المجموعة يرجع إلى اعتباره دولة احتلال يؤثر في قراراتها عوامل خارجية كثيرة، وإن ظهرت بمظهر الدولة ذات السيادة.
ونبدأ بسرد مواقف كل طرف من اللاعبين الدوليين الذين نرى أنهم فاعلون في المشهد المصري. ونبدأ بالولايات المتحدة الأمريكية، وترى أمريكا في مصر دولة محورية ومهمة في المنطقة، إذ هي خزان بشري مهم وتتمتع بميزة جيوسياسية تجعلها على رأس قائمة الدول التي يجب التعامل معها. ولقد تغير وضع مصر بعد اتفاقية السلام التي وقعتها مع الكيان الصهيوني برعاية أمريكا، والتي بدأت بعدها صفحة جديدة من العلاقات الاستراتيجية المبنية على حفظ أمن الكيان الصهيوني في المقام الأول، وتدجين الدول العربية وشعوبها بكل الوسائل المتاحة، سواء من خلال السياسة أو الردع العسكري المكتوم، أو من خلال الدراما والسينما، أو حتى من خلال السطوة الدينية، التي تراجعت كثيرا، على الشعوب العربية، مستخدمة في ذلك مؤسسة الأزهر.
ولقد كان للتعاون العسكري والمساعدات السنوية دور كبير في تشكيل عقلية القيادات العسكرية الوسطى والعليا في الجيش المصري. فالدورات التي يتلقاها الضباط في الولايات المتحدة لها دور كبير في ما وصلت إليه العقيدة العسكرية للجيش المصري الآن، كما أن تعالي أصوات اليمين في الولايات المتحدة منذ تولي جورج بوش الابن له دور كبير في مواقف الولايات المتحدة مع المشهد المصري الذي تردد كثيرا أثناء
الثورة المصرية، لينتهي موقفها كرد فعل لصعود الإسلام السياسي إلى معاداة الثورة الشعبية، إذ أفرزت التوجه الحقيقي لمعادات الإمبريالية التي تقبع أمريكا على رأسها. وبعد وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، باتت المواقف متمايزة بدعم شبه مطلق لقائد الانقلاب، ومن ثم فإن الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن الحياد في معادة الثورة، وإن كان هذا الموقف من الجمهوريين واضح، فإن الديمقراطيين لهم موقف أقل حدة يمكن التفاهم فيه، ومن ثم فإن تغير شكل الكونجرس ثم الرئاسة قد يُحدث فارقا كبيرا في التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
الفاعل الدولي الثاني في المشهد المصري، هو الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسه ألمانيا، التي لا تبتعد كثيرا عن الموقف الأمريكي من حيث تخوفه من الإسلامي السياسي والصعود المتنامي له بين أفراد الشعب، إلا أن موقف ألمانيا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي؛ بدأ يأخذ منحى متباعدا عن الموقف الأمريكي، لا سيما بعد تولي ترامب رئاسة أمريكا وابتزازه لأوروبا ومطالبته الدائمة بثمن الحماية. ورغبة في التباين والاستقلال بدأت أوروبا في إعادة النظر في ملفاتها، واتخاذ مواقف جديدة مبنية على رؤية استراتيجية تبني من خلالها أرضية جديدة يمكن البناء عليها، ومع تماهي النظام المصري مع إدارة ترامب، ومع الإحراج المتنامي للإدارات الأوروبية من الملف الحقوقي الأسود للنظام المصري، بدأت الإدارات الأوروبية تأخذ خطوة للخلف، لا سيما وأن أمل جني مكاسب اقتصادية من النظام المصري شبه معدومة، لذا فإن التعامل مع الاتحاد الأوربي ممكن لو اجتهدت عليه القيادة الثورية.
أخيرا، فالحضور الطاغي للكيان الصهيوني واضح كفاعل قوي بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو، والتعاون اللا محدود الذي تكشف عنه الوثائق واعترافات النظام المصري نفسه، وتصريحات قادة الكيان الصهيوني بأن النظام المصري هو كنز استراتيجي لم يحصل عليه الكيان منذ اتفاقية السلام، ما يجعلهم يتمسكون به ويبذلون كل نفيس للإبقاء عليه، كما أن عودة النظام لتولي الملف الفلسطيني وتدجين المقاومة أو تخديرها (وهذا الدور الفعال الخادم للاحتلال مع ترتيبات صفقة القرن المزعومة) يؤكد على أن الكيان الصهيوني وداعمه الأمريكي يقفان، ليسا كداعمين للنظام المصري، بل سيكونان في الخطوط الأولى للدفاع عن ذلك النظام الحامي لمصالحهما، لا سيما بعد أن استطاع النظام تغيير العقيدة القتالية للجيش المصري ووجه جهده نحو المجهول بمحاربة الإرهاب، وغيّر البوصلة عن العدو الحقيقي. وعلى القيادة الثورية التعاون مع المقاومة الفلسطينية في التنسيق السياسي والمعلوماتي لتخطي هذا التحدي، لكن على المقاومة الفلسطينية في نفس الوقت أن تدرك الحليف الاستراتيجي، ولا تنظر تحت أقدامها بتحصيل مكاسب آنية لا تغني من جوع.
وإلى حلقة جديدة من سلسلة صناعة القيادة الثورية الواعية.