كتب

إبادة الكتب في القرن العشرين.. أكثر من مجرد عمل تخريبي

توقعت أن تستمر جريمة إبادة الكتب مع حدة الاستقطابات والحروب في العالم (عربي21)
توقعت أن تستمر جريمة إبادة الكتب مع حدة الاستقطابات والحروب في العالم (عربي21)

الكتاب: "إبادة الكتب.. تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين"
المؤلف: ربيكا نوث
ترجمة: عاطف سيد عثمان
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت
سنة الإصدار: 2018


المكتبات مستودع للأفكار والسجلات والتاريخ، لذلك تبدو دائما هدفا مغريا بالتخريب والتدمير والحرق لأولئك الساعين لإخضاع عدوهم وإذلاله، سواء كان هذا العدو داخليا أم خارجيا. وعمليات التدمير هذه وإن بدت، أحيانا، عشوائية أو ظهرت أثارها كأضرار جانبية لحرب أشمل، فإنها في كثير من الحالات تتم في إطار عمل ممنهج مقصود، لارتباطها (المكتبات) بثقافة وهوية الآخر.. العدو. 

 

الدافع الأيديولوجي

من هنا تنطلق الباحثة ربيكا نوث في كتابها "إبادة الكتب.. تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين" لإثبات فرضيتها، التي ترى أن "الأيديولوجيا المتطرفة عندما يروجها زعماء بطريقة متعصبة، وقوة سياسية غير مقيدة، تشكل خطراً كبيراً على صون التراث العالمي المكتوب." وقبل أن تقدم العديد من الأمثلة على هذا النهج الخطير، حاولت نوث وضع إطار نظري لـ "إبادة الكتب" تشرح فيه كيف يتحول مثل هذا السلوك العنيف والمنفلت إلى سياسة مبررة و"مجازة رسميا"، فخصصت مساحة كبيرة لمناقشة الظروف السيكولوجية والسوسيولوجية التي تنشئ بيئة يسهل فيها استخدام العنف تجاه البشر والثقافة.

بحسب نوث فإن الأيديولوجيا، باعتبارها "برنامجا اجتماعيا سياسيا أو فلسفة مشيدة حول فكرة لتحويل المجتمع"، لعبت إلى جانب عوامل أخرى دورا مؤسفا في إهلاك البشر والكتب على حد سواء. ولأن ممثليها يخشون ابتداء وصول الناس إلى المعلومات بحرية، ويخشون "البحث المعرفي والتعلم المتحررين من الأغلال الفكرية"، كانت الكتب والمكتبات دائما في موضع الشك، وعرضة للتدقيق والإتلاف.

 

 

لأيديولوجيا المتطرفة عندما يروجها زعماء بطريقة متعصبة، وقوة سياسية غير مقيدة، تشكل خطراً كبيراً على صون التراث العالمي المكتوب

 


 تورد نوث مثالا على ما أسمته المصير المفزع للمواد الثقافية والسكان، نتيجة تصارع أيدولوجيتين فتقول: في العام 1940 احتلت القوات الروسية دول البلطيق (استونيا، لاتفيا، لتوانيا)، و"طهّرت" مكتبات بيع الكتب والمكتبات العامة، فحرقت الكتب غير المقبولة وحظرت 4 آلاف كتاب وكتيب في إطار عملية تحويل البيئة الثقافية لتتفق مع المعتقدات الشيوعية. وفي العام 1941 اجتاح النازيون هذه الدول فتخلصوا من المواد الشيوعية وأخضعوا المطبوعات والمؤسسات الثقافية للمعتقدات النازية.

وإلى جانب الأيديولوجيا، ترى الباحثة المختصة بتاريخ الكتب والمكتبات والأستاذة في جامعة هاواي بالولايات المتحدة الأمريكية، أن النزعة القومية، والعسكرية العدوانية والإمبريالية، والعنصرية، والزعامة المتطرفة، تقوم بالتفاعل مع مناخات عدم الاستقرار في مجتمعات تعيش ظروفا عصيبة، لتنتج شعورا لدى عامة الشعب بالحاجة إلى "مخلّص"، وفي الوقت نفسه حاجة وهمية لخلق عدو يتم تحميله مسؤولية أوضاعها المزرية، ويتحقق بهزيمته وسحقه، عسكريا وثقافيا، انتصارها. 

في كتابها المكون من تسعة فصول، أفردت نوث خمسة منها لحالات دراسية، في محاولة لتفسير إبادة الكتب في بيئة معينة، حرصت على أن تغطى مناطق جغرافية متنوعة، وحملت العناوين التالية: "ألمانيا النازية..العنصرية والقومية"، و"صربيا الكبرى"، و"العراق والكويت وسياسات الإجرام"، و"الثورة الثقافية في الصين"، و"التبت.. ثقافة يحيق بها الخطر". تجيب هذه الأمثلة، أو الحالات الدراسية، عن أسئلة من قبيل كيف استغلت الأنظمة السياسية الأيديولوجيا؟ وماذا كان دور الزعماء المتطرفين في إبادة الكتب؟وعلى أي أساس استهدفت الجماعات المستضعفة؟ وماذا كان تصور الأنظمة السياسية لوظيفة الكتب والمكتبات؟

 

ألمانيا الهتلرية وجريمة إبادة الكتب

تجد نوث في ألمانيا الهتلرية حالة مثالية تجتمع فيها كل العوامل المفسرة لجريمة إبادة الكتب، من القومية، والإمبريالية والعسكرية العدوانية، إلى العنصرية، والشمولية. وتشير إلى أن جذور النازية كانت مترسخة في عمق الوعي الثقافي الألماني، إذ يظهر ذلك بوضوح في كتابات ثلاثة من أبرز النقاد الاجتماعيين المنتمين إلى أواخر القرن الثامن عشر (بول دي لاغارد، يوليوس لانغبين، مولر فان دن بروك)، حيث دعا الثلاثة إلى "إحياء قومي ووحدة قومية، واقترحوا تطبيق جميع أشكال الإصلاح: العنيف والمثالي.. زاعمين أن المجتمع الليبرالي الحديث ينكر على شعبهم الألماني روحه وتراثه". وبدون شك فإن ما جرّته الحرب العالمية الأولى على ألمانيا من أوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية، رافقها شعور مهين بالانهزام، كانت أرضا خصبة لإحياء مشاعر متطرفة بضرورة استعادة موقع متقدم بين الأمم الأخرى، بنيت على ادعاءات زائفة بالتفوق العرقي، وضرورة توحيد كل الشعوب المتحدثة بالألمانية، ما يعني في المحصلة تبرير التوسع جغرافيا.

 

إقرأ أيضا: مفاجأة: هتلر كان مدمنا على هذه الأنواع من المخدرات

أرادت ألمانيا التخلص من كل ما تصورت أنه يشكل عنصر ضعف في ثقافتها، ويمكن أن يهدد قوة وصلابة العرق الآري، فأطلقت سياسة تعقيم قسري للمرضى العقليين، ومدمني الكحول والمجرمين، وتحت عنوان "القتل الرحيم" أزهقت أرواح أكثر من 75 ألف رضيع وبالغ ألماني معوق. كانت تلك بداية سلسلة سياسات لاأخلاقية، أباحت قتل وتدمير كل ما من شأنه الوقوف أمام تحقيق رؤية الزعيم أدولف هتلر لألمانيا النازية. لذلك لم يكن اليهود وإرثهم الثقافي وحده مستهدفا في تلك الحملة المسعورة، فقد دمرت العسكرية النازية كل ما طالته يدها في أوروبا الشرقية والغربية من مصادر معرفية "تتناول الجغرافيا والتراجم والتاريخ التي قد تناقض المزاعم الألمانية، وأي مواد لا تتفق مع الأيديولوجيا الألمانية".

 

خسرت بولندا نحو 90% من مجموع كتبها في المكتبات المدرسية والمكتبات العامة، ونحو 80% من مجموعات كتبها المتخصصة والشخصية، و55% من مجموعاتها العلمية.


تشير نوث إلى أن استخدام النازيين للعنف ضد الثقافة كان يتفاوت في شدته تبعا للقيمة العرقية التي منحوها لكل شعب، فكان للأوربيين الغربيين قيمة أكبر من الأوروبيين الشرقيين، الأمر الذي يفسر حجم الدمار الهائل الذي تعرضت له مكتبات بولندا، في مقابل أضرار أقل بكثير في كل من الدانمارك والنرويج، حيث افترضوا "أن لا حاجة لأن تكون عملية الألمنة عنيفة للغاية في أثناء تعاملهم مع أمثالهم من الآريين". بحسب تقديرات الباحثين فقد خسرت بولندا نحو 90% من مجموع كتبها في المكتبات المدرسية والمكتبات العامة، ونحو 80% من مجموعات كتبها المتخصصة والشخصية، و55% من مجموعاتها العلمية. هذه الخسائر المفزعة تمت بفعل حرق المكتبات، وقصفها وتفجيرها، وتخريب محتوياتها.

 

الغزو العراقي للكويت


تقودنا نوث في كتابها إلى مثال آخر قلما تم تناوله باهتمام، وهو تدمير القوات العراقية البنى التحتية الاقتصادية والثقافية للكويت، خلال فترة احتلالها في بداية التسعينيات من القرن الماضي. لم تتحول المدارس والكليات إلى مراكز اعتقال، ومستودعات ذخيرة فقط، إنما نهبت مكتباتها، ودمر نحو 43% من مخزون الكتب المدرسية، فضلا عن ضياع أكثر من مليون كتاب أطفال. كما تم تدمير البنية المادية لجامعة الكويت، وشحنت محتوياتها من الكتب والأجهزة إلى بغداد، وما تبقى منها أضرم فيه الجنود العراقيون النار وقودا للطهي.

وتشير نوث أنه مع تصاعد الضغط على العراق للانسحاب من الكويت تسارعت عمليات التدمير، وكان متحف الكويت الوطني أحد ضحاياها، عندما شحنت كل الآثار التي تشكل أهمية خاصة إلى العراق، ثم أحرق مجمع المتحف بكامله. لكن الأثر الأعمق لهذا التخريب ظهر في تراجع دور الكويت بوصفها رائدة في المنطقة العربية في تكنولوجيا المعلومات وتطوير الخدمات المكتبية، فضلا عن الضرر الذي لحق بصناعة النشر فيها "كنتيجة مباشرة لانهيار البنية التحتية، كما أنها اختنقت في العراق أيضا حيث أعيد توجيه الموارد إلى آلة الحرب".

وترى نوث أن "جذورالانتهاكات العراقية في الكويت تكمن في العنف الاجتماعي الثقافي المسوّغ أيديولوجيا الذي ارتكب داخل العراق نفسه أولا" في ظل دولة بوليسية قمعت كل الأصوات المخالفة لصوت النظام الحاكم، الذي ارتكب بالفعل جرائم إبادة بحق الأكراد.

 

إقرأ أيضا: إبراهيم عيسى عن حرق الكتب: عار على الحكومة وعمل وضيع (فيديو)

صاحبة الكتاب، الذي صدر في لغته الأصلية العام 2003، تتوقع أن تستمر جريمة إبادة الكتب في الحدوث، سيما مع ما يشهده العالم من استقطابات حادة على أسس دينية وعرقية وسياسية. وتقول أنها تكاد تكون جريمة غير مرئية، نظرا لانشغال المراقبين عادة بمظاهر أخرى للتدمير العسكري، لكن من  يرون في المعرفة المتراكمة أساسا لوجود متحضر، يدركون سريعا أن استهداف المكتبات والكتب، وكل مظاهر الثقافة، ليس مرتبطا فقط بتفكيك الحياة المدنية وتدميرها بل وبتعريض المجتمع كله للمحو.

وكمثال صارخ على العماء الأيديولوجي تتحدث نوث عما حدث في كمبوديا بعد تولي "الخمير الحمر" للسلطة في العام 1975. متأثرين بثورة ماو الثقافية في الصين، قام هؤلاء بإخلاء المدن من سكانها ونقلهم إلى الريف، ليتبعوا ذلك بـ"إبادة الطبقات المتعلمة والحاكمة والعسكرية والقادة الدينيين.. في حين كان هناك تدمير شامل للمزارات والمعابد والمدارس الدينية، ومن ثم للنصوص الدينية. لم تعد هناك حاجة لتدمير جميع الكتب.. عندما تكون عقوبة امتلاك مهارة القراءة هي الموت تصبح المطبوعات بلا أي قيمة" تقول نوث كانت هذه الثورة التي لم تنجح "استعراضا شاذا للسلطة بيد زعامة متطرفة".

التعليقات (0)

خبر عاجل