بعد أن تناولنا في
المقال السابق البنية التشريحية للمجتمع
المصري، شارحين خريطة الطبقات الاجتماعية ومدى قبول كل من تلك الطبقات أو حتى أجزاء منها للتغيير، وهو ما يوضح الصورة للقيادة الثورية الجديدة أين تضع قدمها، لتصنع شريحة البدء، فسنحاول في هذا المقال أن نفكك الشخصية المصرية، لكي تستطيع القيادة الثورية الإجابة على السؤال الأهم: هل تلك الفئات يمكن أن تثور؟
ففي ظل الادعاء المتكرر الذي يراد له أن يصبح أحد ثوابت الشخصية المصرية، أن الشعب المصري لا يثور، هذا الادعاء الذي يجد من البيئة الجغرافية متكأ للتدليل عليه، فبحجة أن المجتمع المصري مجتمع زراعي وحضارته نهرية، فإن أهله يجنحون إلى الاستقرار، وإن صحت النتيجة التي تنسحب على كل شعوب العالم، فإن
الثورة في أصلها استثناء.
إن الميل الطبيعي للاستقرار السياسي لدى الشخصية المصرية لا يتنافى مع كونها شخصية متغيرة، فذلك الشعب الذي قبل أن يغير دينه الوثني إلى المسيحية ثم إلى الإسلام، كما قبل أن يغير لغته من الهيروغليفية إلى اللغة القبطية ليستقر على العربية، لهو شعب قابل للتغيير، كما أن الشعب الذي ثار على حكم الملك بيبي الثاني التي امتدت ما بين عام 2280 وعام 2132 قبل الميلاد، ثم ثار ضد الهكسوس، ثم ثار بقيادة أخناتون ضد الموروث الديني وتسلط الكهنة، ثم توالت الهبات ضد الفرس والروم. وحتى تحت حكم الدولة الإسلامية لم يخنع الشعب المصري، ولن يقبل بالظلم، فما إن زاد جور الولاة قام عليهم الشعب، فثاروا ضد المماليك والعثمانيين، وحتى المحتل الفرنسي الذي أتاهم بسلاح فتاك لم يعهدوه؛ ثاروا ضده غير مبالين بآلة الموت التي يملكها. ولم يتوقف الشعب عن الثورة، وكانت ثورات شعبية انتهجت اللاعنف في العصر الحديث، بدأت في عشرينيات القرن الماضي واستمرت ضد الفساد والمستبدين، فكانت انتفاضة 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977، وصولا لثورة يناير العظيمة.. هذا التاريخ المجيد للشعب الحي، يؤكد أن هذا الشعب وتحت القمع والقبضة الأمنية، لهو شعب قابل للتثوير.
ونُقل عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قال واصفا أهل مصر: "لا يغرنك صبرهم ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه... واتقوا فيهم ثلاثا؛ نساؤهم فلا تقربوهن بسوء وإلا أكلوكم كما تأكل الأسود فرائسها، أرضهم وإلا حاربتكم صخور جبالهم، دينهم وإلا أحرقوا عليكم دنياكم".
ولقد مس النظام الحالي في مصر الثلاث وزاد، فالنساء المعتقلات يملأن المعتقلات، وهتك الأعراض والاغتصاب تحت التعذيب مثبت بشهادات الضحايا ومدون في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، والأرض بيعت بثمن بخس امتثالا لرغبة أسيادهم من الصهاينة العرب واليهود، خضوعا وإذلالا وصغارا، وهو ما لم يقبله الشعب. أما الدين فحدث ولا حرج، فمحاربة أهل الدين وسجنهم والتضييق عليهم منهج انتهجه النظام منذ الانقلاب، صاحبه تفشي الفجور وإشاعة الفاحشة، وهو ما لا تقبله النفس السوية. وقد زاد النظام عليه حالة الإفقار المتعمد، الذي ينتهجه لإرهاق الشعب بخطة جهنمية يتحكم من خلالها على هذا الشعب ويشغله في قوته، حتى يصارع ليل نهار من أجل أن يوفي حاجاته الأساسية. ولم يكتف بذلك، بل أغواه بكماليات الحياة، وصورها على أنها أساسية وسهل له طريق الاقتراض حتى يغرقه في ديونه، وهي طريقة شيطانية لا يخطط لها إلا إبليس.
وعلى مستوى السياسة الدولية، فقد أفقد النظام مصر مكانتها الرائدة ودورها المحوري في المجتمع الدولي، وهو ما ينعكس بشكل كبير على قيمة الإنسان في الداخل والخارج، وهو ملموس لمن يعيش في الخارج أو من يريد أن يسافر. هذه الأجواء التي يغلفها القمع المادي أو المعنوي، جعلت من الحياة في مصر بيئة صعبة التحمل، وهو ما يعني أن لحظة الانفجار قادمة لا محالة، فكلما زاد الإحكام عظم الانفجار، لذا فإن مقولة إن الشعب المصري لا يثور، مقولة يراد بها باطل، ومقولة إن الشعب رضي ورضخ تأتي في سياق المقولة الأولى، والاثنتان يراد بهما تدجين الشعب. حقيقة الأمر أن الأمور كلها مهيأة لثورة جديدة، كل ما على القيادة الجديدة السعي لإيجاد قضية محورية جامعة وطرق ابتكارية تطلق شرارة هذه الثورة.
وإلى مقال قادم نستقرئ فيها أساليب ثورية مختلفة، ونماذج لثورات يمكن الاستفادة منها في تحريك المشهد نحو التغيير المأمول.