هل من الكفر أن يكفر المرء بالدولة؟ تبدو الدولة أشد قسوة من الله، فالله وصف نفسه بالغفور الرحيم ولكن الدولة ظلت دوما شديدة العقاب. لقد نشّأتنا الدولة على صورة سقراط الحكيم يشرب السم وهو يعي أنه مظلوم، لتبقى فكرة القانون فوق الشك، والقانون هو الدولة. المواطن الذي يموت من أجل بقاء فكرة الدولة هو مواطن ميت قبل أن يموت، وقد أن الأوان في حقل العلوم الإنسانية قبل الفلسفة أن نسقط فكرة الدولة لتسقط فكرة الوطن والأمة. وليوجد الإنسان الحر توجد مسلمات بنيت عليها عملية التنشئة الاجتماعية في كل دولة، ونسي الناس مناقشة ذلك، فتحولت الدولة إلى رب لا يجادَل في وجوده، في حين أنها مجرد تنظيم إداري لشؤون الناس اليومية؛ يمكن استبداله بغيره والحصول على خدمات أفضل وعلاقات أقل استغلالية، ولا تحتاج إلى أي أكاذيب لتستمر. لذلك لنبدأ من البداية.
الدولة أداة كذب
يجب أن لا نأخذ فكرة الحرية من النظريات التي بررت للدولة وخلقتها من العدم. الدولة خالقة شكلها الحالي بالأدوات الحالية التي منها المدرسة صانعة الخضوع. عندما تحدث ابن خلدون في الفصل الأول من الباب الأول من المقدمة عن الملك بصفته ضرورة حيوية لم يحدد شكل الدولة، وإنما اكتفى بذكر الوسيلة التي تؤمن الأمن والغذاء، وتزع الناس بعضهم عن بعض. أما الشكل فقد كان تحدد خارج الضرورة، ليتحول إلى وسيلة قمع مستمرة لحرية الأفراد، حيث ولد السلاطين وولدت الشرطة وولدت فكرة الوطن والأمة لاحقا، لتجمع الناس داخل حيز جغرافي يسهّل تحويل الجمهور إلى قطيع استهلاك لا يكتفي بما يسمح بمراكمة ثروات عند جزء صغير من القطيع المسمى مواطنين في دولة.
كانت الدولة الغربية تكافح لفرض نموذجا القيادي بتبريراته الأيديولوجية، كأنما لتمنع تشكل نماذج أخرى من التنظم تطعن في قوة الدولة، وبالتالي قوة الغرب الموحد للنماذج في نموذجه المركزي
في درس الفلسفة يتمتع الأساتذة بترديد مقولات هيجل عن الدولة الضرورة أو الدولة كشكل أرقى من التنظيم العقلي. سيمجد ماكس فيبر تلك العقلانية في مقولة البيروقراطية، متناسين كلاهما أن أشكالا سابقة من التنظيم حققت للناس الأمن والغذاء دون المساس بالحرية. لقد كانت بعثات الاستكشاف الغربية تأتي بأخبار الشعوب التي لم تدخل مرحلة الدولة بشكله الغربي.
لقد كان الدولة الغربية تكافح لفرض نموذجا القيادي بتبريراته الأيديولوجية، كأنما لتمنع تشكل نماذج أخرى من التنظم تطعن في قوة الدولة، وبالتالي قوة الغرب الموحد للنماذج في نموذجه المركزي. طبعا لم يفلح لينين وورثته في النجاة من الدولة الهيجلية، إنما حوّلوها إلى قولاق، فصارت الدولة قاتلا محترفا مبيدة للأمن، والغذاء مبرر وجودها الأول.
يصل النموذج الهيجلي إلى مداه. السوق كشف حاجته إلى نهاية الحدود الوطنية في المستوى الإجمالي، واكتشف الناس قدرتهم على التعايش على المستوى المحلي دون الحاجة إلى تحكم مركزي فتخلّق اتجاهان يقضيان على نموذج الدولة المقدس وأدواتها الحكمية: التفكيك التحتاني نحو الحكم المحلي والتفكيك الحدودي نحو القرية الكونية صديقة السوق المفتوحة إلى الأبد. في التجربة الغربية يوجد جدال حقيقي يستهدف إنهاء الدولة بصفتها جهازا مركزيا متحكما في حياة الناس عن بعد؛ وينتج تبريرات يومية عن ضرورته الحيوية عبر المدرسة.
إحدى وسائل تفكيك الدولة هي التطور التقني الجبار لأدوات التواصل، لا لأنها تقوم بفضح أكاذيب الدولة اليومية وتفريغ أدواتها الأيديولوجية، كالمدرسة والجامعة، من كل مهام غسيل الدماغ الفاشية فحسب، بل لأنها سمحت للناس بإدارة شؤونهم دون العودة إلى الدولة وقنواتها.
إحدى وسائل تفكيك الدولة هي التطور التقني الجبار لأدوات التواصل، لا لأنها تقوم بفضح أكاذيب الدولة اليومية وتفريغ أدواتها الأيديولوجية
يمكننا إقامة مقارنة تفسيرية بين انكشاف حيل مشعوذ في قرية وبين انكشاف وسائل الإخضاع الأيديولوجي الذي تقوم به الدولة على من تسميهم مواطنيها. لقد رفعت التقنية الحديثة الغشاوة على عيون كثيرة، لكن لا بد من الإشارة التأسيسية أن الدولة المركزية تنهار في مكان نشأتها، أما دول مثل الدول العربية فما تزال في مرحلة بدائية إزاء الدولة، وبالمقارنة التفسيرية هي في مرحلة تكنولوجيا العربة، بينما وصل معلموها (أو قدوتها الغربية) إلى مرحلة الصاروخ.
التقنية الحديثة والحكم المحلي
تزاوج تقنية الإدارة المحلية مع التطور التقني الحديث وتكاملهما يغنيان الناس بالتدريج عن الدولة، ويسقطان كل خطاب متمسك بالمركزية، بما في ذلك الخطاب النقابي الذي يعيش من بقاء الدولة لأنه ولد بالدولة ولها. لا يحتاج الأمر إلى نظريات كبرى لمقارعة الهيجلية، يكفي التوقف عن الإيمان بهيجل ليسقط نموذجه من درس الفلسفة ويدخل درس علم الاجتماع، حيث يبدأ المتعلم بإسقاط لمقدس أو إعادة الدنس إلى دنسه. والدولة دنس لا حظوة له إلا في الدرس الهيجلي الباقي في مدارس مثل المدارس التونسية، حيث يجلس أستاذ الفلسفة مجلس الغراب الحكيم، مانعا كل نقد لفكرة الدولة التي تجعل ضارب مادته أعلى من كل الضوارب في الامتحان، حتى يخضع التلاميذ إلى حكمة الإبقاء على الدولة كائنا مقدسا فوق النقد.
غني عن القول هنا إن قدسية الزعيم من قدسية الدولة، حيث يتماهيان، فلا تفرق العامة بين الله والرئيس والشرطي، فكلهم يرعبون المواطن الذي ليس مواطنا وإنما كائن مستهلك. والتجربة العربية كلها دروس لتقديس الدنس وتدنيس المقدس، أي امتهان الحرية.
سيكون من العسير إعادة بناء تصورات للعالم بدون تلك الدول ذات الرايات المختلفة. لقد تعلمنا أن التصورات تأتي لاحقة على الوقائع، فعلى الأرض انتهت الدولة المركزية إلى ممثل تجاري للشركات المسماة وطنية، وما هي وطنية بل هي أداوت صناعة وتجارة وتبادل معولمة.
في الوقت الطويل المطلوب لقبول فكرة الاستغناء عن الدولة المركزية، وجب الغوص بعمق في تجارب التنظم الإداري العربي القديم، حيث لا حدود للوطن ولا للدولة، بل حرية حركة وتبادل وسفر بلا جواز سفر فجواز
إن إعادة تأسيس التفكير خارج نموذج الدولة المركزية سيأخذ وقتا طويلا، وسيرجم بالكفر والعبثية من قبل قوى رجعية منها بالأساس النقابات ولو كانت بيد اليسار، حيث اليسار نفسه صار نكتة في العالم لا تثير الضحك. فما معنى أن تكون يساريا تنافح عن الدولة الممثل التجاري للشركات سوى أن تحتفظ بمكانتك كمفاوض على مصلحة قطاعية باسم اليسارية، وينفضح شغلك الاحتجاجي بأنك طالب مكانة في المركز بوضع المتسول النقابي وتمنع تفكيك المركز لتعيش منه؟!
في الوقت الطويل المطلوب لقبول فكرة الاستغناء عن الدولة المركزية، وجب الغوص بعمق في تجارب التنظم الإداري العربي القديم، حيث لا حدود للوطن ولا للدولة، بل حرية حركة وتبادل وسفر بلا جواز سفر فجواز السفر (وسيلة الدولة المركزية) هو أيضا جواز المنع من السفر باسم حماية الدولة غالبا.
يمكن الذهاب إلى حد كسر فكرة الربا المالي المحتاج إلى شبكة البنوك الدولية، حيث يمكن القول أنه لما احتاجت البنوك الربوية إلى تنظيم العالم اخترعت له الدولة المركزية. والآن عندما نفكر في إنهاء ذلك (أو الخروج منه بعد الاستغناء عنه) سيمتد الأمر إلى أنظمة التبادل الاقتصادي على مستوى محلي، حيث لن يحتاج إلى النظام البنكي القائم الآن بما هو إنهاء للاقتصاد الربوي، وربما العودة إلى التبادل بالمقايضة بصفتها علاقة مباشرة لا وسيط فيها.
لقد عاش الناس قبل الدولة بشكلها الغربي وتبادلوا المنافع وضمنوا الأمن، ويمكن أن يعودوا إلى العيش بدونها، فهي ليست مرحلة من مراحل تطورهم البيولوجي في سياق النشوء والارتقاء، وفكره الذي أسس المركزية الغربية (ومركزية فكرة الدولة الغربية داخلها)، بل هي وسيلة من وسائل التنظيم استنفذت أغراضها وقد حان أوان التخلص منها، فهي بوابة حصر الحرية في إرضاء الدولة (وفي الحالة العربية الحرية هي خدمة الحاكم بأمره المقدس).
نعم يمكن تجاوز فكرة الدولة بالعودة إلى القرية. وهذا أفق تفكير سيقود إليه الربيع العربي العالم، فهو ثورة للمستقبل لا تهتم للماضي إلا ريثما تجهز عليه.