حتى أيام قليلة، كان الأمل بداخل صاحب هذه الكلمات يُصارع اليأس، وتقويه روح الكاتب بداخلي، ولكن اتساع الخرق على الراقع، والمواقف التي تنساب أمام العينين وتتشربها الروح برغمها يوما بعد آخر؛ بل برهة بعد كارثة لا ثانية بعد أخرى، تكاد تُزهق النفس؛ فيقر العقل والوجدان معا بأن أسوأ ما في جميع ثوار العرب هو ما أتى بهذه اللحظة في تاريخ الأمة كلها، وليس أسوأ ما في الانقلابيين أو معادي الثورات في المقام الأول هو ما أودى بنا إلى ما نحن فيه اليوم، مع التسليم التام بإجرام الأخيرين.. ولكن ماذا كان يُنتظر منهم غير ذلك؟ وإن نام الراعي عن المرعى والرعية.. هل يحرسهم الذئب؟
فلماذا نعتب على غير الثوار مع ما نراه ينمو في المعسكر الثوري، بخاصة في المهجر، خلال مجزوء الثانية بعد الأخرى؟!
أكل الغرور "كبد ثوراتنا العربية"، ويكاد يودي بحياتنا بعد بلادنا لولا لطف الله تعالى؛ وبلطفه تعالى تسير الأمور في الغربة، بلا قيادات حقيقية ولا حتى مجرد تكامل في الرفق والشفقة بالناس، ومن رفقه ولطفه تعالى أن الأخطاء المتكررة أو بذور الصبّار التي تُبذر في أرض مجتمعاتنا العربية هنا في المهجر القسري لا تنمو مباشرة؛ بل تتآكل وتتعفن فتذبل. ولكن لأن الله حكيم وعادل، ويذيق المجموع ببعض خطايا ودفائن نفوس بعض أهله، تنفجر بعض الأخطاء الصغرى في وجه المُبتلين الضعاف، بما لا شك في أنه تذكير من الله بأن "البوصلة" لا تسير في مسار صحيح، لا في مجرد الإعداد والتدبير لدحر الانقلاب.. بل في اللُّحمة البشرية وحفظ النسيج الآدمي للجسد الواحد في "التيه" الذي تُصدره قوى ثورية وتصر عليه حتى اليوم.. حتى ليفقد العقلاء الأمل في الجميع، إلا مَنْ رحم ربي!
صار دم الثوار في الغربة موزعا بين المسميات المفترض أنها ثورية، وكأن كل حزب "منهم" بما لديهم فرحون، نسأل الله الأمن والسلامة. فهذا يتبرأ من شاب أُرِسلَ إلى قدره وزبانية التعذيب في
مصر، وذاك يتنمر، وثالث يتهم، والسفينة في الحقيقة والسيارة، أو فلنقل جمل الصحارى لا الطائرة (وحاشا لله أن نخدع أنفسنا)، بل السلحفاة الثورية تسير إلى الخلف من أسف منذ وقت ليس بالقليل. والقوم لم يكفهم الدخول إلى التيه بأيدي وأرجل مسرعة، بل إنهم يستعذبون المسير ويرضونه لِمَنْ سواهم ولسان حالهم يلهج: ما دمنا بخير فما أجملنا وعلى الدنيا السلام.. فقد ورثنا الأمر خربا وهو لن يزداد خرابا بنا على كل حال!
هذا يرمي بالتبعة على ذلك، وهؤلاء جل همهم أن يبقوا في الصورة؛ فلا يُقام حزب أو حلف أو تجمع أو حتى أطياف من الفضول القولي اللفظي إلا بهم، والجميع يدرك أنهم يُقايضون ويتبنون مسيرة الوهم ليس أكثر. وإنه لا أمل في التغيير لأن المُجمل (إلا القليل الذي عافاه الله) لا يود السيادة إلا لنفسه، ولا يحلم إلا بعودته إلى الميدان. ولأن الحلم حباله وأمده بعيدان تماما.. فقد حولوه إلى واقع لحظي.. فالجميع متشبث براحته، ولا أحد يفكر في الآخر ولا حجم معاناته وما يلاقي من ألم وأسى؛ وإن انفجر الداخل أو كاد.
وهكذا صارت لدينا أنظمة عربية مجنونة تأكل ببقايا شعوبها، أيضا منمنات ومتفرقات ثورية لآخرين يؤجلون خلاص شعوبهم بتمسكهم بمجموعاتهم القليلة التي تعاني شتات الغربة في المقابل. وحال المهاجرين المصريين مهما يكن ليس بأفضل من غيرهم من العرب على جميع الأحوال.. وإن يكن غيرهم ليس بعالي الصوت مثلهم.
إلى متى تستمر هذه المأساوات؟ ويكلم الشرفاء ويحدثون أنفسهم لخطورة ووعورة ما يجدون؟ والذي يُعلي من صوته أو يكتب ينتظر الويل والثبور والمصائب؛ فالقوم عدوهم اليوم صار من أنفسهم أو الناصح لهم الذي يريد الخير، فلا يستمعون إليه ويتهمونه في عقله، ثم يلومونه إن كتب أو أعلى صوته.
اللهم إني أرى المأساة تكبر ككرة الثلج فوق رأس الجميع، ولا تمنعني هيبة الناس من أن أقولها كما أمرتنا أن وأمرنا رسولك صلى الله عليه وسلم.. فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ، أَنْ يُقَالَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكَّرَ بِعَظِيمٍ" رواه الترمذي.
ألا إن القوم "يأكل" بعضهم بعضا باسم
الثورة، ويظنون أنفسهم من الثوار عن بعد، نظير كلمات يقولونها لا تسمن ولا تنهي مصابا ولا تنير دربا في الداخل أو الخارج؛ ألا إن القوم يأكلون بدم الثوار وانتظارات المسجونين؛ ألا إن القوم لا يراعون الله في جراح المصابين، ألا إن نصرا لا يجيء ولا تغييرا في مثل هذه الأجواء.
اللهم إني لا أبرئ نفسي، ولكن لا أملك إلا هي وقلمي.. وأبرأ إليك من الفرقة والتحزب بكل أسمائهما ومنافعهما، وأنذر الجمع بأن أرضا لن تسع خلافاتكم وسماء لن تقلكم على هذا النحو.. فضلا عن شم أريج رائحة الأوطان.
أما عن الحل (لمن يسأل عنه) فهو سهل ميسور بسيط، يكمن في نبذ السيئ، وما أكثره في كل ما سبق!