هو رجل لا تملك إلا أن تحبه عندما تلقاه، يدخل قلبك دونما استئذان. كيف لا وهو يملك "خلطة" خاصة لا تكاد تجدها عند غيره: وجه بشوش، وقلب صادق، وتواضع وأريحية وتلقائية، وكرم، وسرعة بديهة، وروح دعابة، وقريحة شعرية متدفقة... تحملها روح مسكونة بالعمل للإسلام والعمل لفلسطين، ربطت نفسها بهذا المشروع منذ الطفولة وتحملت معاناتها، ودفعت أثمانها الثقيلة، عن رضى واحتساب وطيب خاطر.
يعرفه الكثيرون خطيباً للمسجد الأقصى، ورئيساً سابقاً للجامعة الإسلامية بغزة، وشاعراً من شعراء
الدعوة الإسلامية وفلسطين، ثم رمزاً من رموز
حماس وسفيراً متنقلاً لها. وكانت وفاته رحمه الله (قبل بضعة أيام) في السودان في 15 شباط/ فبراير 2019، في محطة اللجوء الأخير بعد أن عاش في غزة، والكويت، واليمن، ودرس في مصر والسعودية.
أتاح انشغالُ كاتب هذه السطور ببحثٍ عن تاريخ التيار الإسلامي الفلسطيني فرصةَ لقاء طويل مع
الشيخ الدكتور محمد صيام، في صيف 2000، كشف فيه عن جوانب مهمة تستحق التسجيل، خصوصاً مما ليس متداولاً قبل رئاسته للجامعة في غزة. وهو ما سيركز عليه هذا المقال بشكل أساس.
غير أن المعلم البارز لبداية معرفة كاتب هذه السطور بالشيخ صيام كان في شباط/ فبراير 1978، عندما شارك في رحلة عُمرة مدرسية قادها صيام نفسه؛ فكنتَ تجد فيه مربياً وأباً، يجمع بتوازن جميل بين الجدية والدعابة، وبين الحزم والضبط وإطلاق طاقات الفتيان. ولا أنسى مشهده عندما توقف الباص الأمامي الذي كان فيه في الطريق، ونزل منه إلى باصنا؛ وعلى غير توّقع منا، فتح ورقة فيها قصيدة كان قد كتبها لتوه، وقمنا بإنشادها معه مطلعها:
أيها الشباب العلم للأمم ... أيها الشباب المجد للهمم
* * *
الشيخ صيام رحمه الله، كما أخبرني، وُلد في مصر عام 1936 لأب فلسطيني من قرية الجورة، وكان شيخاً أزهرياً، ولأم مصرية. وعندما قرر والده العودة لفلسطين بعد إنهاء دراسته، رفضت عائلة زوجته "تغريبها" أو ذهابها معه، فاضطر للطلاق، غير أن الطفل محمد عاش في كنف والدته بمصر سبع سنين، إلى أن جاء والده وأخذه إلى فلسطين حيث عاش في "الجورة"، وفي حرب 1948 هاجرت العائلة إلى خان يونس. ثم إن والده الشيخ محمود استشهد (رحمه الله) في قصف إسرائيلي على مركزٍ استخدم لتموين اللاجئين (حيث كان يقوم فيه بتقديم المساعدة) في خان يونس في شباط/ فبراير 1949، قبيل انتهاء الحرب، فانتقل محمد صيام إلى رعاية عمه. ولم يَفتّ في عضده بُعدُ أمه وفقدان أبيه ونكبة الحرب والتهجير، فكان ترتيبه الثاني على قطاع غزة في الشهادة الابتدائية، التي كانت تعقد امتحاناتها كامتحانات عامة للقطاع.
انضم صيام إلى ركب الدعوة الإسلامية على يد الأستاذ الشاعر أحمد فرح عقيلان سنة 1951، وصار عضواً في جماعة
الإخوان المسلمين. ثم انتقل لدراسة المرحلة الثانوية في ثانوية فلسطين بغزة. وفي تلك الفترة شهدت جماعة الإخوان "عصراً ذهبياً"، خصوصاً في الفترة 1952-1954، وأصبحت القوة الشعبية الأولى في القطاع بلا منازع. وبرزت بين الإخوان ظاهرة "الفتيان الكبار" أو "الفتيان الرجال"، وهم شباب أغلبهم في المرحلة الثانوية ممن عركتهم الأحداث ومعاناة التهجير والنكبة؛ فأخذوا يتطلعون لأخذ دورهم كاملاً في العمل الجهادي والسياسي. وكانوا أيضاً طلبة متفوقين، إذ يذكر صيام أنه في السنة الدراسية 1954-1955، وفي اختبارات نصف السنة، كان الإخوان أوائل الصفوف على 23 صفاً من أصل 25 صفاً، فجمعوا بين الحماسة والذكاء والاستعداد للتضحية والمسؤولية.
كانت ثانوية فلسطين "منجماً" للتنظيم الخاص الذي أنشأه الإخوان بدرجة عالية من السرية، حيث كان ينتقي من بين الإخوان أنفسهم أفضل العناصر المستعدة نفسياً وإيمانياً وجسدياً للعمل الجهادي المقاوم. وكانت قيادة الإخوان التقليدية على غير اطلاع عليه، إذ كان مرتبطاً بالعمل الخاص، الذي يتابعه كامل الشريف من مدينة العريش. وكان من أبرز شبابه أبو جهاد (خليل الوزير) الذي كان طالباً في ثانوية فلسطين، وكان مسؤولاً عن هذا العمل في غزة (شمال القطاع). وفي الإطار العام للإخوان، كان أبو جهاد عضواً في أسرة مسؤولها محمد صيام. وكان صيام يشكو غياب أبو جهاد عن الأسرة أحياناً، فيطلب منه المسؤولون التريث والتماس العذر. غير أن ضمّ صيام للتنظيم الخاص بعد حين، قد كشف لصيام أسباب غياب أبي جهاد وانشغالاته. ولأننا سننشر لاحقاً دراسة حول موضوع هذا التنظيم، فنكتفي بالإشارة إلى أن صيام شارك في الجوانب المتعلقة خصوصاً بالدعم اللوجستي للشباب الذين يرتبون لتنفيذ العمليات، فشارك في تهريب الأسلحة والذخائر وتخزينها. وتعاون بشكل خاص مع عبد الله صيام، ومع إبراهيم عاشور، وحمد العايدي... وغيرهم.
ومع الضربة التي تلقاها الإخوان من نظام عبد الناصر أواخر سنة 1954، سيتوقف عمل التنظيم الخاص، وينتقل الكثير من أعضائه ليصبحوا عناصر مؤسسة في حركة فتح. أما صيام فسينتقل سنة 1955 إلى جامعة القاهرة لدراسة اللغة العربية، إلى جانب صديقه الشاعر عبد الرحمن بارود. وسيستفيد من كونه شخصية غير مكشوفة "إخوانياً"، ومن لهجته المصرية، في النشاط العام، وفي التخفيف عن إخوانه في السجون بإيصال احتياجاتهم ومراسلاتهم؛ فخاطر بتزوير بطاقة هوية قرابة تُبرّر زيارته لحسن عبد الحميد في سجن الفيوم، كما زار رياض الزعنون (الذي سيصبح لاحقاً أحد قادة فتح ووزير الصحة في السلطة) في سجن الزقازيق؛ وكلاهما كانا من قادة العمل الطلابي في قطاع غزة.
تخرج صيام سنة 1959، وعمل لسنة واحدة في التدريس في قطاع غزة، ثم انتقل للكويت في أيلول/ سبتمبر 1960، ليعمل في مجال التدريس. وهناك قام مع إخوانه بترتيب العمل للتنظيم الإخواني الفلسطيني في الكويت، المرتبط بغزة. وكان ممن معه في البدايات محمد أبو دية وفوزي جبر وحسن المدهون وموسى نصار... ثم تولى قيادتهم حسن عبد الحميد، عندما انضم لهم في السنة التالية على الأغلب.
وعندما أعاد الإخوان في قطاع غزة تشكيل التنظيم الفلسطيني واختاروا هاني بسيسو مراقباً عاماً (سنة 1963)، كان محمد صيام عضواً في مجلس الشورى ممثلاً عن منطقة الكويت، وشارك في اجتماعاته السنوية، التي عُقدت سراً في السنوات التالية في بيروت والسعودية (تحت غطاء الحج والعمرة) والكويت والأردن.
وكان لصيام دور مهم في العمل الطلابي - الفلسطيني الإخواني في الكويت، وممن سعى إلى إنجاحه من خلال موقعه التدريسي في المدارس، ومن خلال روحه الشبابية وقدرته المميزة على التواصل وبناء العلاقات، وكسب القلوب. وقام بذلك إلى جانب أساتذة آخرين، أمثال حسن عبد المحسن وسليمان عبد القادر وحمدان عبد اللطيف ومحمد أبو دية والشيخ عمر الأشقر، بإشراف الأستاذ حسن حمد... وكان لهم دور أساس في ظهور ذلك الجيل الشاب، الذي قاد العمل الطلابي والشبابي الإسلامي الفلسطيني في المدارس والمساجد وجامعة الكويت، وعلى رأسهم خالد مشعل.
* * *
في أواخر السبعينيات، حصل صيام على تفرغ علمي مكنه من إكمال دراسته العليا في كلية الشريعة التي كانت تتبع جامعة الملك عبد العزيز، والتي استقلت لاحقاً لتصبح جامعة أم القرى في مكة المكرمة؛ حيث أنهى الماجستير في عام واحد، والدكتوراة في عامين فقط (مغترباً عن زوجته وأبنائه التسعة، ثمانية بنات وولد، المقيمين في الكويت). وفي سنة 1983، حصل على انتداب من دون راتب من الكويت للعمل في فلسطين المحتلة، فغادر للعمل مدرساً في الجامعة الإسلامية بغزة. وبعد بضعة أشهر، أَبعدت سلطات الاحتلال رئيس الجامعة د. محمد صقر للأردن، فتولى محمد صيام رئاسة الجامعة بالوكالة، وتابع إدارتها خلال الفترة 1984-1988. وخلال تلك الفترة خاض صيام مجموعة "معارك" على جبهات متعددة، ليعبر بالجامعة إلى بر الأمان، وتجاوز مصاعب وتحديات قاسية، سواء في رفع مستواها العلمي وتوسيعها وتحقيق الاعتراف بها، أم في صمودها في وجه الاحتلال، أم في المحافظة على هويتها وبوصلتها في بيئة حزبية وفصائلية منافسة تحاول الهيمنة عليها.
وفي الفترة نفسها، كان الشيخ صيام خطيباً للمسجد الأقصى (نيابة عن قطاع غزة)، حيث يتناوب على الخطابة مرة شهرياً مع عدد من العلماء. وفي أجواء الانتفاضة المباركة، ومع بروز دوره، قامت سلطات الاحتلال في28 تموز/ يوليو 1988 بإبعاده عن القطاع؛ فعاد من جديد إلى الكويت.
ثم برز الشيخ صيام كأحد رموز حركة حماس، واستقر به المقام بين السودان ثم اليمن، فشارك في وفودها، ومثلها في المهرجانات والمؤتمرات، وخصوصاً تلك التي تعقدها الحركات والتجمعات الإسلامية في القارة الهندية وجنوب شرق آسيا. وكان يسافر أحياناً أسابيع عديدة، باذلاً طاقته ووقته لأجل دعوته وقضيته... وكان له دور كبير في العمل الخيري وفي جمع التبرعات لدعم صمود شعبنا في فلسطين.
* * *
ولا يمكن اختتام المقال دون الإشارة إلى الشيخ محمد صيام كأحد أبرز شعراء فلسطين الإسلاميين المعاصرين، وله عدة دواوين منشورة، مما لا يتاح المجال إلى التفصيل فيه، غير أن أشعاره السهلة التي استخدمها وسيلة للدعوة وللوصول إلى القلوب أو للتعبئة والتحريض الجماهيري؛ تستحق أن يوقف عندها باعتبار أنها مثلت عنصراً مؤثراً في نفوس جيل سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، حيث لقيت انتشاراً واسعاً. ومن أبرزها قصيدته في الهجوم على اتفاق التسوية السلمية (كامب ديفيد) بين مصر والكيان الصهيوني، وفيها يقول:
يا أمتي نامي هنية ... فالنوم أفضل للقضية
نامي فما مرت بنا ... أبداً كهاتيك البلية
كلا ولا كانت لنا ... يوماً زعامات غبية
* * *
حاول هذا المقال أن يسلط الضوء على بعض جوانب تجربة الشيخ الدكتور صيام رحمه الله. وهي تجربة تستحق أن تُدرس لرمزٍ اجتمعت فيه جوانب الإخلاص والتضحية والتواضع ونكران الذات وصفاء النفس، مع إمكانات قيادية وتربوية ودعوية وخيرية، وقدرات مميزة في الأدب واللغة والشعر والخطابة، وصفات محببة من سرعة البديهة، والروح المرحة، والقدرة على كسب قلوب الناس. ويكفيه أنه عاش للإسلام ولفلسطين واستمر ينافح عن رسالته نحو سبعين عاماً دونما ضعف أو كلل... رحمه الله رحمة واسعة.