هل يحتاج عبد الفتاح السيسي إلى ورقة، مجرد ورقة، من المعتقلين من الإخوان داخل السجون، لكي يفرج عنهم؟ وهل يكفي أن يعلن الإخوان تنازلهم عن مطالبهم وأنه لا رغبة لهم في الحكم، حتى تنتهي الأزمة، ويُسمح لمن بالخارج بالعودة، ولمن في السجون بالخروج؟!
هذا التصور البسيط للأزمة يدفع البعض للحديث عن ثبات الإخوان وصمودهم كأنه يكفي لتجاوز الأخطاء التي أنتجت هذه الأزمة، لا سيما في تنظيم تقدر قيمة من فيه بعدد السنوات التي قضاها سجيناً، وأنتج حالة المظلومية التي كانت سبباً في الإعراض عن فكرة المراجعات؛ لأن تدارس الماضي بعيداً عن المظلومية كان يكفي لعدم الوقوع في نفس الأخطاء، لكنه في المقابل كان سيدفع للمحاكمة السياسية كل من أخطأ.
تدارس الماضي بعيداً عن المظلومية كان يكفي لعدم الوقوع في نفس الأخطاء، لكنه في المقابل كان سيدفع للمحاكمة السياسية كل من أخطأ
البوابة السوداء
كنت صبياً عندما قرأت "البوابة السوداء"، وفيها يروي الكاتب "أحمد رائف" وقائع التعذيب في سجون عبد الناصر، وقد أحاط بي إحساس وقتها من هول ما قرأت، أن الله تنزل على الإخوان في سجون عبد الناصر، كما تنزل على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم إني قد غفرت لكم. وقد منعتني هذه القراءة المبكرة، من مرض الاعجاب بعبد الناصر، فقد مثلت مناعة لي ضد حكمه، ثم إنني أيقنت مع تفتق وعيي السياسي أن حكم العسكر يعني إهدار الكرامة الإنسانية!
وفيما بعد اختلفت مع الإخوان، لكن استمر كرهي لكل من عذّب، وكل من نكّل، وكل الأنظمة المستبدة، وعصمني هذا من أكون طرفاً في أي دعوة تستدعي الجيش للسياسة، أو ترى في وجود العسكر في
الثورة أمراً يمكن تقبله، لكن من رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، بدوا حريصين بعد الثورة على إعادة الثقة من جديد في العسكر، وكأنهم – يا إلهي – لا يتعلمون من دروسهم هم!
في سنة 1974، كتب الكاتب "محمد جلال كشك"، المحسوب على "الفكرة الإسلامية"، مقالاً يقول فيه أنه يعتب على الإخوان (عتاب المحب) أنهم لم يقوموا بمراجعة لتجربتهم السابقة، وكان حساساً في عتابه رقيقا فيه، فاختار كلماته بعناية وعباراته بدقة. وقد قرأت المقال في العام الماضي في أحد كتبه، ووجدته – يا إلهي – صالحاً للنشر تعبيراً عن المرحلة الحالية، حيث يهرب البعض من ذلك، بحجة أن قيادات الإخوان في السجون، ولا يليق أن يناقش الأمر الآن، فإذا قلت إن الذين أداروا المشهد بعد الانقلاب ليسوا كلهم في السجون، أحالوك إلى صمود المعتقلين وثباتهم، ثم إلى تمسك غيرهم بمطالبهم، وأخصها عودة الشرعية، ليبدأ اللعب على وتر المشاعر الإنسانية، بالطلب منك أن تنظر إلى تضحياتهم الجسام. البعض يقول إن قيادة الخارج ليست تعبيرا عن القيادة الأصيلة في الجماعة!
صفة محمود حسين
ولنتكلم بصراحة، هل الأستاذ محمود حسين، الأمين العام للجماعة، ليس تعبيراً عن قياداتها؟ وكأن الحظ هو من كتب له أن يكون في الخارج فلا يتعرض للاعتقال أو البطش!
عندما نجحت الثورة، كان الذين تمددوا في المشهد من الفريق الرئاسي للدكتور محمد مرسي؛ غير معروفين لأهل السياسة وليسوا معروفين لأهل الثورة
حتى لا نُؤخذ بعيداً، فالأستاذ محمود حسين، لم يخرج بناء على رغبة منه، فقد سافر قبل الانقلاب بتكليف، وعندما تعلم أنه سافر للخارج بتكليف أيضاً قبل الثورة مخافة فشلها، فلا يمكن لأحد أن يدعي أنه ليس تعبيراً عن الجماعة. ثم إن الأستاذ إبراهيم منير هو في موقعه (نائباً للمرشد العام) من تفويض من النائب الغائب الدكتور محمود عزت، الذي اختفى ولم يخرج إلا في وقت أزمة الشرعية، ليفيد أن هذه القيادة هي التي تعبر عن الجماعة، فبُهت الذين ادعوا أنهم خير من يمثلها!
ولم يكن هذا التمثيل منبّت الصلة، بما قبله، فعندما نجحت الثورة، كان الذين تمددوا في المشهد من الفريق الرئاسي للدكتور محمد مرسي؛ غير معروفين لأهل السياسة وليسوا معروفين لأهل الثورة، فليس سراً أن رمز الثورة، وهو الدكتور محمد البلتاجي، جرى تغييبه، ورمز السياسة، وهو الدكتور عصام العريان، تم تهميشه، وكان يمكن أن يكون لهما دور في التفاوض مع القوى السياسية والثورية في حكم الرئيس محمد مرسي، الذي لم يجدهما، فاستعان بوزير دفاعه الذي كان يضلله، فيقول إنه تفاوض مع قادة جبهة الإنقاذ وأنهم لا يريدون أن يتنازلوا عن شرط تنحيه عن السلطة. ولم يكن هذا صحيحاً.
كان العمل الأخير للدكتور البلتاجي هو أنه جمع قوى الثورة في اجتماع "فيرمونت" الشهير، لكن الإخلال بما جاء في هذا الاجتماع، أسقط اعتباره لدى القوى الثورية، التي نظرت إليه على أنه غرر بها، ولم يكونوا يعلمون أنه جرى دفعه بعيداً لاختطاف الرئيس مرسي بعيدا عن محيطه الثوري. ثم إن "العريان" كان معروفا لأهل السياسة وقادة الأحزاب منذ أن كان أصغر نائب في برلمان سنة 1987، لكنهم ضنوا عليه برئاسة البرلمان، كما ضنوا عليه برئاسة المجلس حزب "الحرية والعدالة". فقد دفعوا السياسي والثوري للخلف ليتقدم رجال التنظيم!
اختفاء الحرية والعدالة
وإذا كانت القوى المناوئة للجماعة أبدت شكها في أن الإخوان يمكن أن يفصلوا بين الدعوي والسياسي بإنشاء الحزب. فقد قدمت لهم الجماعة الدليل على صدق اعتقادهم، عندما اختفى الحزب في العمل السياسي والثوري وتقدمت الجماعة بعد الانقلاب العسكري، وظل الحزب إلى الآن بعيداً، فالعصمة بيد التنظيم ورجاله، إلى أن أحيط بهم الآن وقد سيق المعتقلون إلى السجون. ولم يكن المتهمون بقتل النائب العام هم الفوج الأول في هذا الموكب، فهم الفوج الثالث، لكن ربما كانوا الأول بالنسبة للجماعة، فالمؤكد أن الفوج الأول وهم المتهمون في قضية عرب شركس، ليس من بينهم إخواني واحد!
إذا كانت القوى المناوئة للجماعة أبديت شكها في أن الإخوان يمكن أن يفصلوا بين الدعوي والسياسي بإنشاء الحزب. فقد قدمت لهم الجماعة الدليل على صدق اعتقادهم
في الاعتصام الذي نظمه
المصريون في تركيا أمام
القنصلية المصرية بإسطنبول صبيحة اعدام
الفوج الثالث، خطب أحد الشباب، وقد اختلط الغضب بالحزن، فكان خطاباً من القلب، وهو يعلن أنه ليس واحداً من آحاد المعتصمين، ولكنه "ولي لدم"، فأحد الذين سيعدمون صديقه، وعليه فإنهم يعلنون للقيادة أن مصر لم تعد تعنيهم، وأنهم لا يسعون لحكم، وما يريدونه ليس العودة لمصر، فلن يعودوا إليها حتى لو سقط السيسي، فقط يريد إخراج من هم في السجون!
كلام كهذا قيل في صلاة الغائب في إسطنبول، اليوم الجمعة، وقد أزاح الشباب قيادة الجماعة وسيطروا هم على المشهد، فما يريدونه ليس أكثر من الإفراج عن المعتقلين وإنقاذ من
ينتظرون دورهم في الإعدام!
ويسمع المرء هذا الخطاب، فيملأ النفس بالأسى على الفرص الضائعة التي جرى تبديدها، ومحاولة قمع الصوت الآخر، من خلال مليشيات جرى تأسيسها على "فيسبوك"، ومن شخصيات عمالتها لأجهزة الاستخبارات مقطوع بها، لتنهش كل من ينتقد القيادة الرشيدة، أو يقول رأيا مختلفاً، ويرون في كل رأي يدعو للمراجعات أنه لا يقدر صمود الرئيس وثبات المعتقلين!
وهو أمر يستحق التقدير فعلاً، وصمود الإخوان في السجون معروف عنهم من زمن عبد الناصر، وقد رفضوا كتابة رسائل الاسترحام المطلوبة منهم، مقابل الإفراج عنهم، وهو أمر قامت به قوى أخرى، وإن صمد قليلون من هذه القوى مثل فريد عبد الكريم القطب الناصري المعروف، في قضية مراكز القوى في عهد السادات، فإن من أقدموا على الكتابة من الإخوان كانوا قلة، ربما لم أعرف منهم سوى أحد الشباب، الذين تابوا من قريب!
لقد ظن نظام السيسي أنه عندما يطلب من السجناء كتابة خطابات الاسترحام، فإنهم سيندفعون إلى هذا، لكن من فعل هذا قلة، من غير الإخوان، بل إن من بين غير الإخوان من رفضوا أن يكتبوا نفياً لعلاقتهم بالتنظيم!
سحق الإخوان هو رسالة يؤجر عليها السيسي إقليميا ودوليا، ولو انسحبوا لعمل المستحيل حتى يعودوا إلى نفس المربع. فما هي قيمة السيسي بعيداً عن تصفيته الإخوان؟
لكن، هل المشكلة فعلا في التنازل، وأن تعلن قيادة الخارج أنها تنازلت عن أي رغبة في العودة للحكم أو في السياسة، يكفي لوقف إراقة الدماء؟
الحقيقة، أن سحق الإخوان هو رسالة يؤجر عليها السيسي إقليميا ودوليا، ولو انسحبوا لعمل المستحيل حتى يعودوا إلى نفس المربع. فما هي قيمة السيسي بعيداً عن تصفيته الإخوان؟ هل الدعوة لعودة الشرعية تقلق السيسي حقاً؟!
إن السيسي وهو يقوم بانقلابه يعلم حدود الجهد عند الإخوان، ثم إن موت قضية الشرعية وعودة الإخوان للحكم، سيدفع القوى السياسية لأن ترتب أوراقها عن أنه لو سقط الانقلاب فلن يزاحمهم الإخوان في سلطة أو في حكم، فكيف له أن يفرط في هذه الهدية الكبرى!
منذ النشأة والتكوين خسر الإخوان كثيراً بممارسة السياسة، وكان دخولهم إليها نذير شؤم
الإخوان والسياسة
منذ النشأة والتكوين خسر الإخوان كثيراً بممارسة السياسة، وكان دخولهم إليها نذير شؤم، وعندما فكر الإمام البنا في خوض الانتخابات، فإن رئيس الحكومة النحاس باشا عرض عليه العدول عن ذلك مقابل السماح له بحرية الحركة، وفعلها البنا، وكان يجوب مصر طولا وعرضا في مؤتمرات مفتوحة يحضرها مئات الآلاف في القاهرة والمحافظات، لدرجة أن يكتب خالد محمد خالد في مذكراته، أنه في هذه الفترة التي كان فيها الوفد في الحكم، لم يكن هناك بيت في مصر لا يوجد فيه واحد ينتمي للإخوان، لكن بعد ذلك أصر البنا على خوض الانتخابات في حكومة السعديين، فجرى إسقاطه بالتزوير، وبدأت حرب الإبادة، التي انتهت بقتل النقراشي والرد عليها بقتل البنا!
وما جرى في مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري بعد ذلك يؤكد كيف انتهى الخلاف مع عبد الناصر، وهو في جوهره صراع على السلطة وخوف من المنافسة، فلم يكن عبد الناصر عدوا للإسلام، فقد كان على علاقة بالجناح الأكثر تشددا في الجماعة، وعبد الناصر نفسه سجن الشيوعيين أيضاً، وكانت المشكلة في أن الإخوان ساعدوا في تغيب الديمقراطية ليخلو لهم الجو بعيداً عن منافسة "الوفد" حزب الأغلبية، وكانوا ضد عودة الحياة البرلمانية لأن "الوفد" سيفوز بها.
ماذا لو تنازل الإخوان عن الشرعية؟ فماذا يفعلون الآن أصلا لاستعادتها؟ وماذا لو قرروا الانسحاب من المشهد السياسي كله!
يؤسفني أن هذا لن يكون دافعا لتراجع السيسي عن شيء
إنني أقر بحق كل حزب، أو جماعة، أو فرد، في الوصول للسلطة، لكن كان ينبغي أن تكون الديمقراطية هي معركة مصر؛ لأنها وحدها التي تحافظ على إرادة الشعب، فماذا لو لم يترشح الإخوان للانتخابات الرئاسية بعد الثورة؟!
الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى مقال آخر، فماذا لو تنازل الإخوان عن الشرعية؟ فماذا يفعلون الآن أصلا لاستعادتها؟ وماذا لو قرروا الانسحاب من المشهد السياسي كله!
يؤسفني أن هذا لن يكون دافعا لتراجع السيسي عن شيء، فمن المسؤول عن هذه الحلقة المفرغة؟
لقد أخطأ الإخوان عندما خاضوا الانتخابات الرئاسية، وأخطأوا عندما احتموا بالجيش وسعوا لخطب ود الدولة القديمة فابتلعتهم، بدلا من أن يستعينوا بإخوانهم، شركاء الثورة، لكن من حكموا لم يكونوا في الثورة، فلم نشاهد أحدا منهم في الميدان، لكننا شاهدنا "البلتاجي"، وقد جرى تغييبه.
من قال إن جماعة عمرها من عمر دولة، يكون دخولها للقصر هذا الدخول الضعيف وبسبعة أفراد، كانوا في خارج مصر منذ فترة طويلة، ومن عمر الأجيال التي شاركت في الثورة؟!
وإذا لم يكن هناك خطة في الحكم بقوة، فلماذا كانت الرغبة في دخول القصر الجمهوري أيضا؟
ماذا لو تراجع الإخوان؟
السيسي نفسه لن يسمح لهم بالتراجع!