هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا أحد كان يعتقد في نهاية سنة 2010 وبداية 2011، عندما أشعل محمد البوعزيزي نفسه احتجاجا على وضعه الاجتماعي البائس في الريف التونسي الفقير، أن المنطقة العربية كانت مقبلة على واحدة من أضخم الحركات الثورية في تاريخها الحديث. ولا أحد كان يتصور وقتها أن الموجة الثورية الأولى كانت ستطيح بأعمدة النظام الاستبدادي العربي من تونس وصولا إلى ليبيا مرورا بمصر وفي ظرف زمني قياسي.
لكن الموجة الثورية لم تقتصر في تداعياتها الكثيرة على إسقاط الأنظمة القائمة بل تعدتها إلى إحداث تغيير عميق في بنية الوعي وفي هيكل المجتمعات وفي توازن القوى السياسية بكل المنطقة مشرقا ومغربا.
اقرأ أيضا: لوبوان: الجزائريون كسروا حاجز الخوف.. ماذا يريدون؟
ردّة الفعل السياسية والعسكرية كانت هي الأخرى غير متوقعة بفعل القمع المتوحش الذي جوبهت به الثورات وما تمخض عنها من إفرازات سياسية وانقلابات عسكرية ومذابح مرعبة خاصة في سوريا ومصر وليبيا.
نجحت الثورات إذن في زلزلة البناء السياسي العربي ونجحت الثورات المضادة في إجهاض المنجز الثوري وفي تحويل المشهد المفعم بالأمل إلى مذابح مفتوحة على المجهول إلى اليوم. بناء على ذلك راهن كثيرون على أن صفحة الثورات والتغيير الشعبي بالطرق السلمية قد طويت إلى غير رجعة، وأن النظام الاستبدادي العربي قد استعاد مجاله كاملا أو يكاد، وأن ما لم يمكن استعادته قد تم إحراقه وتدميره كما هو الحال في المشهد السوري الدامي.
نجحت الحكومات العربية في فرض خيارين لا ثالث لهما على شعوبها: فإما الرضى بالقمع والاستبداد والفساد وإما العنف والفوضى والإرهاب والدواعش
إقرأ أيضا: البشير يغيّر قيادة الجيش العليا.. وتشكيل محاكم طوارئ
السودان والجزائر تعتبران من أكبر الدول العربية مساحة وثقلا استراتيجيا لا لأنهما تمثلان قوة عسكرية وجغرافية هامة فقط، بل لأنهما تشكلان عقدة إقليمية فيما يتعلق بالتشابكات الإقليمية والدولية التي يمثلانها ويعبران عنها. فالسودان من أكبر القطع العربية والإفريقية وهي تقع في منطقة تقاطع استراتيجي يربط المنطقة العربية بالقارة الإفريقية ويمتد تأثيرها إلى القرن الإفريقي ومنطقة النيل والشرق الأوسط برمته. أما الجزائر فهي قلب المغرب الكبير وهي التي تطل على الساحل الجنوبي للمتوسط بشكل يجعلها في تشابك تام مع الإقليم الأوروبي. لكن البلدين يشتركان أساسا في سيطرة المنظومة العسكرية على مقاليد الحكم منذ عقود طويلة عقب انقلاب على السلطة بالقوة المسلحة ومنع الانتخابات التعددية.
خصائص ثورية
إن عودة هذه التحركات الشعبية القاعدية تستنسخ بشكل كامل عناصر الموجة الثورية الأولى التي انطلقت من تونس لأنها تحمل كل خصائصها. فهي أولا حركات شعبية قاعدية تلقائية لأنها ليست مؤطرة حزبيا ولم يدع إليها أي حزب سياسي أو يتبناها أي تنظيم. ثم إنها تحركات سلمية، إذ تؤكد الشعارات المرفوعة خلال الاحتجاجات على الطابع السلمي للتحركات حتى لا تسقط في فخ العنف الذي يحلم به النظام من أجل تبرير استعمال القوة والقمع ضدها. هاتان الخاصيتان على قدر كبير من الأهمية لأنهما تجعلان من إمكانية إيقاف الموجة الشعبية أمرا صعبا بل مستحيلا لأنها تحمل شروط ديمومتها في داخلها ما لم يتدخل النظام أو الأطراف الخارجية بطرق مسلحة لجرها نحو دائرة العنف.
على الطرف الآخر يبدو أن النظام الرسمي العربي لم يتعلم من دروس الموجة الثورية الأولى، إذ واجه الاحتجاجات بنفس التهم والوسائل. فقد بادر في الحالة السودانية إلى استعمال القمع ضد المتظاهرين متسببا بذلك في تأجيج المطالب الاحتجاجية وفي تصعيد نسق الموجة الثورية في شكلها وحجمها ومطالبها. كما عملت أبواق النظام على ترديد نفس التهم البائسة التي تتهم التحركات الشعبية بأنها مؤامرة على الأمن القومي وبأن أطرافا خارجية تقف وراءها.
الدفع إلى الهاوية
موضوعيا لا يملك النظام السياسي العربي كما هو معروف عنه بدائل أخرى لتجاوز الموجة الجديدة غير التكذيب والتخوين والقمع الدموي. إن تاريخ تعامل الأنظمة السياسية مع المطالب الشعبية يؤكد أن العنف والعنف المضاعف هو الطريق الوحيد الذي سلكه واختاره في التعامل مع المطالب المشروعة خاصة إذا تعلق الأمر بشرعية النظام السياسي نفسه.
لقد نجحت الحكومات العربية في فرض خيارين لا ثالث لهما على شعوبها: فإما الرضى بالقمع والاستبداد والفساد أو العنف والفوضى والإرهاب والدواعش. هذه هي المعادلة التي يعزف على وترها السياسي العربي من أجل تأبيد الاستبداد لا لصالحه هو بل لصالح القوى الاستعمارية التي يعمل وكيلا لصالحها في المنطقة. لقد كان هذا هو الدرس الأساسي للموجة الثورية الأولى التي تعاملت بكل سلمية في مواجهة رصاص النظام وآلته العسكرية بل إن القوى الثورية قد رضيت جميعها خلال الأيام الأولى التي تلت سقوط النظام بطي صفحة الاستبداد دون محاسبة أو قصاص. وهو تعامل لم يمنع النظام الانقلابي من الفتك بالصفوف الثورية عندما استتب له الأمر بعد نجاح تراجع المد الثوري وتمكنه من أجهزة الدولة.
إن تمسك السلطة السياسية بهذا الخيار هو الذي يُبقي على شروط اندلاع الموجة الثورية قائمة وهو الذي يجعل من المستحيل توقع انحسارها مادامت شروط انفجارها لا تزال ثابتة. بل إن هذه الشروط قد ترسخت وثبتت في الوعي الجمعي العربي بشكل يُنبئ بطبيعتها الجديدة لأنها اكتسبت وعيا جديدا بتوحش الاستبداد وشراسته.
الثابت الأكيد هو أن المنطقة العربية مقبلة على تحولات كبيرة في السنوات القليلة المقبلة وأن أعظم هذه التحولات إنما تتمثل في تعاقب الموجات الاحتجاجية والحركات الثورية الشعبية بشكل لن تكون الأنظمة قادرة معه على مواجهتها إن هي اعتمدت نفس الأساليب التي اعتمدتها في التعامل مع الموجة الأولى.
لقد راهنت قوى عربية كثيرة على وأد المسار الثوري بشكل دموي عنيف كما قامت بشيطنة كل خطوط الإمداد التي دعمت ربيع الشعوب وهو الأمر الذي شكل قطيعة حقيقية بين الشعوب من جهة وبين المؤسسات السياسية من جهة أخرى. هذا العنف والقمع الذي مورس على الجماهير السلمية هو الذي سيكون المحرك الأساسي للموجة الثورية الثانية اليوم أو غدا.
إن تفاخر الدولة العميقة بنجاحها في القضاء على الثورة وعلى إمكانية تجددها لم يدم طويلا لأنه كان مؤسسا على الجهل بطبيعة الحركات الاحتجاجية وبطبيعة محركاتها الداخلية التي يغذيها القمع بشكل غير مقصود.
لم يفهم النظام السياسي العربي إلى اليوم أن الحركة مهما كان نوعها تبقى قائمة متجددة ولو خفتت ما دامت شروط اندلاعها قائمة. هذا الجهل بطبيعة الحركة الاجتماعية وهاته النشوة بالفوز المبكر هما اللذان يؤكدان أننا اليوم أمام زلزال عربي جديد سيصحح مسار الموجة الثورية وسيحقق ما عجزت عنه مستفيدا من دروس الرجّة السابقة.
إقرأ أيضا: الحراكُ العربي يُزهِرُ من جديد