هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عاد جدل إصلاح التعليم إلى واجهة الأحداث في المغرب، بالتزامن مع استعداد البرلمان لمناقشة ما يُعرف بـ "القانون الإطار"، الذي يتضمن عددا من المواد الخلافية المتصلة بإصلاح التعليم، وعلى رأسها مسألة إعادة تدريس بعض المواد العلمية باللغة الفرنسية.
ومع أن الجدل انزاح في شق كبير منه إلى بعده السياسي والأيديولوجي، بعد التصريحات التي أطلقها رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، ودعا فيها خلفه على رأس الحكومة والعدالة والتنمية إلى تفضيل الاستقالة عن تمرير قانون قال بأنه يضرب هوية المغرب في العمق، إلا أن ذلك لم يمنع أكاديميين من العودة إلى أصل المشكلة في التعليم، وهي مشكلة معقدة وذات أبعاد متشابكة.
الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن وكبير الباحثين في الوحدة الإنجليزية في مركز الجزيرة للدراسات بالعاصمة القطرية الدوحة، خص "عربي21"، بشهادة نادرة عن واقع الجامعات المغربية الراهن، في محاولة لاستنهاض همم المعنيين بالشأنين السياسي والعلمي في المغرب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وهذا نص شهادته:
أنهيْتُ جولة لإلقاء محاضرات عامة في سبع جامعات مغربية خلال شهر آذار (مارس) المنقضي، وتباينت بين ثلاثة موضوعات رئيسية: "الترمبية كفلسفة سياسية وتأثيرها على العلاقات الدولية المعاصرة" في جامعات الرباط والدار البيضاء وطنجة ووجدة وفاس، و"الجدلية بين الجامعة والتنمية والديمقراطية" في جامعة أبي شعيب الدكالي في الجديدة، و"مستقبل الإسلاميين في المنطقة العربية: دروس مستفادة من الربيع العربي" في المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة في الرباط. بيد أن مدّة هذه الجولة لم تتسع للسفر إلى جامعات أخرى، وأعتذر لأصدقائي من الأساتذة والطلاب في مراكش وأكادير والقنيطرة وسطات عن تأجيل الزيارة.
الجامعة المغربية اليوم تعاني الكثير، تعاني قائمة لا متناهية من المعضلات الفكرية والمنهجية والبنيوية
وجدْتُني أذهب بعيدا في تأمّلاتي عندما أرسل إليّ أحد الأصدقاء والأستاذ في كلية الحقوق في السويسي بالرباط صورة لأقدم "إجازة في الطبّ البشري والبيطري" منحتها جامعة القرويين في فاس قبل 712 عاما لعبد الله بن صالح الكتامي خلال الحقبة الموحدية أيام الخليفة أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المومن الملقب بالناصر عام 603 هجرية (1207 ميلادية). كان تسليم هذه الإجازة بحضور الموثق القاضي عبد الله طاهر وثلاثة من الأطباء: ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار، وأبو العباس أحمد بن مفرج المعروف بالنبطي، أبو عمر أحمد بن محمد بن الحجاج المعروف بالإشبيلي.
على خلاف التنافس في نشر أفضل كتاب أو أهم دراسة أو أن يكون المرء النجم الأكاديمي في جامعته، أصبحت مقاييس النجاح لدى أغلب هؤلاء الأساتذة والعمداء هي قيمة المزرعة وعدد العقارات ونوعية السيارات التي يملكها هو وذريته
لست ماضويا يتعبد في أطلال الحكايات القديمة، أو يتخندق في التراث خارج منطق الانفتاح على العصر ودورة الحضارة الإنسانية الكونية. بيد أني كلما تردّدت على زيارة المغرب خاصة في العامين الماضيين، يساورني الضّجر والقنوط بشكل متزايد بسبب ما آلت إليه أحوال المغرب وهي تتذبذب بين التعثر وإعادة إنتاج الفشل في أغلب الحالات. غادرت المغرب وأنا قلق على الجامعة المغربية التي اعتبرتها دوما ولاّدة أجيال من العلماء والمفكرين والمصلحين، وقاطرة الشباب إلى مراتع المعرفة الخصبة، ورافعة المغرب إلى التنمية وتحقيق ذاته وتطلعاته إقليميا ودوليا على غرار الإشعاع الفكري الذي كان ولايزال لجيل من الكبار الذين كرسوا عملهم لتلك الجامعة من طينة علال الفاسي، ومحمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد جسوس، وفاطمة المرنيسي، وعزيز بلال، وغيرهم.
غير أن الجامعة المغربية اليوم تعاني الكثير، تعاني قائمة لا متناهية من المعضلات الفكرية والمنهجية والبنيوية في مقدمتها حالة سكيزوفرينيا أو انفصام الشخصية بين وجهيْن متناقضين: وجهٌ ألمعِيٌ ينمّ عن أخلاقيات العمل الأكاديمي، وحرمة الأبحاث، وكرامة الأستاذ، وتحمّل المسؤولية المعنوية والمجتمعية للجامعة، وآخر بَشِعٌ ثعْلَبِيُ العينين يعكس شيوع الفساد وانتشار الرشاوى واضمحلال القيم. كانت جامعة يقودها الحس والالتزام الوطني في العقود الثلاثة الأولى بعد استقلال المغرب عام 1956 تنير الطريق، وتبني الحداثة، وتنتج الأفكار والاستراتيجيات الجديدة، وتصحّح برؤاها النقدية الخط العام في البلاد إلى سيرك للعب والتلاعب بسموّ المعرفة واستغلال مؤسّسة الأستاذية للثراء والاستقواء وتوسيع شبكة المصالح الخاصة. تصبح الصورة قاتمة وهي تعكس أضلاعا مخيفة في ثنايا مغرب الانتكاسات:
1 ـ كان التسجيل في مرحلة الدكتوراه في الثمانينات من القرن الماضي يتمّ بمنطق القَطَّارَة، أو كما يقول المغاربة "يَدوْزُّوكْ من عينين الغربال". أما اليوم، فقد شاعت موضة الماستر بتقليعات وتركيبات مختلفة بمنطلق تعدد التخصصات وتقاطع بعض العلوم الاجتماعية، وهذا تطور إيجابي إن كان يحقق اجتهادات جادة في مسار تلك العلوم والإنسانيات. انطلقت يد بعض الأساتذة أيضا في إدارة برامج الدكتوراه بما يتمشى مع موضوعات محددة وحسابات ومعادلات تتنافس في توجيهها المؤهلات العلمية للطالب واعتبارات المال والعلاقات العامة واعتبارات خفية مسكوت عنها لدى بعض من يلبسون عباءة "الأستاذ" و"الأكاديمي" و"الباحث"، لكن سلوكياتهم تنطوي على خيارات ونزعات وشهوات أكثر قربا من منطق "القافز"، و"المعلّم"، و"المْدَبّر على راسو" بمنطق الكسب المادي السريع واستغلال المنصب ماديا وسياسيا في تدبير العلاقات العامة والتزلّف لمراكز القوة.
على خلاف التنافس في نشر أفضل كتاب أو أهم دراسة أو أن يكون المرء النجم الأكاديمي في جامعته، أصبحت مقاييس النجاح لدى أغلب هؤلاء الأساتذة والعمداء هي قيمة المزرعة وعدد العقارات ونوعية السيارات التي يملكها هو وذريته، وحرصه على أن يشتري كلّ طالب نسخة من كتابه أو مجموعة نصوص أعدّها كمقرّر للمادة التي يدرّسها في الكلية. وتظل المفارقة التي توصل إليها عالم الاجتماع محمد الشرقاوي (تشابه أسماء بالصدفة) مدوية إذ أن "أكثر من 55 في المائة من أساتاذة الجامعات المغربية لم ينشروا ولو سطرا واحدا طيلة حياتهم." وهذا يستحضر المبدأ المتداول في الجامعات الغربية Publish or Perish (إمّا أن تنشر أوتندثر!)
هي جامعة ينخرها الفساد على أيدي "سماسرة المعرفة" ومن يتاجرون في قبول الطلاب الجدد في الماستر مقابل 20000 درهم (2105 دولار أمريكي) أو الدكتوراه بسعر 40000 درهم (4210 دولار). وحسب ميزان العرض والطلب، هناك سوق رائج لأبحاث الإجازة والماجستير وأطروحات الدكتوراه في السوق السوداء تحت الطلب، كل حسب سعره. ويبقى بعض "الأساتذة" المتمرّسين بفن التفاوض ميّالين لإنجاز أطروحات بأنفسهم نيابة عن طلابهم الخليجيين مقابل السعر الأعلى.
يتجاوز الوضع الراهن السّجال بشأن بعض "الأساتذة" الذين ترتفع هرمونات "فحولتهم" إلى حد الانتشاء والشبق بتخيل المدرج بمثابة قفص "دجاجات" يحق لهم التربص بأنوثتهن.