إلى أين يتجه الوضع الجزائري؟

بعد موجة الثورات العربية وما عقبها من ثورات مضادة تراوحت بين الانقلاب الصريح والانقلاب الناعم، مثّلت التحركات الشعبية الجزائرية مثار اهتمام كبير لدى النخب والأوساط الشعبية العربية على حد سواء. ورغم الاتفاق على مركزية التحركات الشعبية في تحديد المسارات بما تمارسه من ضغط على أصحاب القرار، ومراكز القوى المختلفة داخل النخب العسكرية والمدنية الحاكمة في الجزائر، فإن مآلات تلك التحركات ورهاناتها التي ستعيد خلط العديد من الأوراق في المستويين الإقليمي والدولي، لا يمكن أن تكون مرتبطة باستراتيجيات الفاعلين الجزائريين المحليين فحسب، كما لا يمكن أن تنحصر تداعياتها ومفاعيلها في الداخل الجزائري.

 

المؤسسة العسكرية تقود المشهد

وبحكم الدور المركزي الذي مارسته هيئة الأركان في المحافظة على البعد السلمي للاحتجاج الشعبي، وفي دعم مطالبه الرافضة للعهدة الرئاسية الخامسة، لا يمكن لأي مراقب للشأن الجزائري أن يُنكر الدور الحاسم للاجتماع الأخير للقيادات العسكرية، في إرغام معسكر رئيس الجمهورية على إرسال استقالته للمجلس الدستوري. وهو المجلس الذي كان قد رفض من قبلُ دراسة فرضية إقالة الرئيس التي دعا إليها رئيس أركان الجيش الجزائري. 

وقد أرجع المتابعون للوضع الجزائري ذلك الرفض ـ أو التمرد على إرادة الجيش والمطالب الشعبية ـ إلى تبعية المجلس الدستوري لمؤسسة الرئاسة. وقد يكون من المهم هنا أن نشير إلى أنّ المؤسسة العسكرية، قد اعتبرت أن من أصدر بيان الرئيس حول نيته الاستقالة هي "قوى غير دستورية وليس الرئيس"، في حين أنها اعتبرت استقالة الرئيس التي أعقبت اجتماع القيادات العسكرية استقالة دستورية. 

 

بوتفليقة ليس هو الحاكم

منذ إصابته بالجلطة الدماغية سنة 2013، كان من المعلوم عند الجزائريين أن الرئيس بوتفليقة لم يعد هو الحاكم الفعلي للقصر الرئاسي، ولكنّ توازنات السلطة لم تمنع مراكز القوى العسكرية والسياسية والمالية من ترشيحه لعهدة رابعة سنة 2014، كما لم تمنعهم من دعم ترشحه لعهدة خامسة سنة 2019. ولم تتغير معادلات السلطة إلا بعد الاحتجاجات الشعبية العارمة التي واجهت العهدة الخامسة، والتي أجبرت جماعة الرئيس في مرحلة أولى على الحديث عن مرحلة انتقالية مفتوحة، ثم اضطرتهم تحت ضغط الشارع ورئاسة الأركان على إرسال استقالة السيد بوتفليقة إلى المجلس الدستوري. 

 

على الحراك الجزائري أن يُخفّض من سقف مطالبه الحالية وأن يؤمن بمنطق التراكم والصيرورات التاريخية طويلة الأمد

وسواء أكان اصطفاف هيئة الأركان مع المطالب الشعبية جزءا من معركة قائد صالح ومجموعته ضد سعيد بوتفليقة، ومن معه من العسكريين والسياسيين ورجال الأعمال، أم كان اصطفافا مبدئيا مع تلك المطالب، فإن دور المؤسسة العسكرية في اجتماعها الأخير ـ الذي هو أقرب إلى التهديد بانقلاب أو بتمرد عسكري، أو ما يُسمى بالإسبانية pronunciamiento - كان حاسما في الدفع نحو استقالة الرئيس و"التطبيق الفوري للحل الدستوري المقترح المتمثل في تفعيل المواد 7 و8 و102، ومباشرة المسار الذي يضمن تسيير شؤون الدولة في إطار الشرعية الدستورية"، كما جاء على لسان رجل العسكر القوي قايد صالح.

مهما كانت أسباب الالتقاء الموضوعي بين الاحتجاجات الشعبية وموقف المؤسسة العسكرية الذي تطور نحو المواجهة المفتوحة مع رئاسة الجمهورية، ومهما كانت صحة الإشاعات التي تتحدث عن استباق المؤسسة العسكرية لقرار عزل قائد صالح من منصبه، فإنه التقاء "مؤقت"، ولا يبدو مؤهلا ـ من منظور المؤسسة العسكرية ـ ليتجاوز مطلبي إزاحة الرئيس و"العصابات"، التي "تحاول تهريب أموال الشعب المنهوبة نحو الخارج". 

 

حسابات الجيش

إننا أمام التقاء موضوعي حددت المؤسسة العسكرية سقفه ومحاوره: منع العهدة الخامسة في إطار دستوري، ومحاسبة "العصابات" المستفيدة منه، وهي بالضرورة "عصابات" مرتبطة بمؤسسة الرئاسة ورجلها القوي السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس. ومن الواضح أن الجيش بخطابه هذا، لم ينحز إلى كل المطالب الشعبية (تغيير منظومة الحكم) بل انحاز إلى الجزء"المقبول" منها، وهو الجزء الذي لا يمس برئاسة الأركان، ولا يسمح بالحديث عن أية"عصابة" مرتبطة بها، فضلا عن إمكانية محاسبتها. 

بصرف النظر عن مدى"الطهرانية" الحقيقية للمؤسسة العسكرية المنحازة لجزء من المطالب الشعبية (رفض العهدة الخامسة ومحاربة "العصابات" المتمعشة من سلطة رئاسة الجمهورية)، يكفي أن نتذكر هيمنة الجيش على المشهد الجزائري ليبدو حديث رجل العسكر القوي عن وقوفه وراء الشعب لـ "يسترجع حقوقه الدستورية المشروعة وسيادته الكاملة"، ضربا من الخطاب الإنشائي الذي يصعب تحوله إلى خطاب خبري على الأقل في المدى المنظور، خاصة مع غياب محاور حقيقي وقوي أفرزته التحركات الشعبية، ومع استحالة تحقق مطلب رحيل المنظومة الحاكمة بأكملها، إلا في عملية "انتحار جماعي" صالحة للروايات الخيالية.

 

مدارات الرعب

إن الذهاب بالمطالب الشعبية إلى أقصاها يعني الخروج من منطق "الحل الدستوري" الذي تدعمه المؤسسة العسكرية ـ رحيل بوتفليقة وانتقال السلطة إلى رئيس مجلس النواب وإجراء حوار وطني ـ إلى "الحل الثوري"، وما يعنيه من إطلالة على مدارات الرعب القديمة (العشرية السوداء) والحديثة (الوضع الليبي أو السوري أو حتى المصري). فالحل الثوري هو في جوهره إنكار لحق الجيش في "السلطة التحكيمية"، وضرب لمصالحه المادية ومكانته الرمزية الموروثة من حرب التحرير.

 

مهما كان تفاعل الشارع الجزائري مع السقف الذي حددته المؤسسة العسكرية للمطالب المشروعة والمقبولة سياسيا واقتصاديا، فإن منطق الواقع يفرض على هذا الشارع أن يبتعد عن منطق الرغبة

في هذا الوضع الملتبس، حيث يتواجه شارع فاقد للقيادات "التوافقية" ولبرنامج سياسي موحد مع جيش يمتلك كل أدوات القوة الداخلية والخارجية، يبدو أن على الأشقاء الجزائريين أن ينتجوا نموذجهم الخاص للانتقال الديمقراطي. فسواء أتنزّلت التحركات الجزائرية في الموجة الثانية من الثورات العربية أم كانت منفصلة عن الموجات الثورية، فإنها تتنزل بالضرورة في مسار بحث الشعوب العربية عن بناء أنظمة سياسية أكثر شرعية، وأقدر على إدارة الانتقال الديمقراطي بمضامينه التحررية في المستوى الحقوقي والمساواتية في المستوى الاقتصادي. 

مهما كان تفاعل الشارع الجزائري مع السقف الذي حددته المؤسسة العسكرية للمطالب المشروعة والمقبولة سياسيا واقتصاديا، فإن منطق الواقع يفرض على هذا الشارع أن يبتعد عن منطق الرغبة (تغيير النظام الآن ـ وهنا الذي هو أقرب إلى "حلم اليقظة" منه إلى الممكن السياسي). فقد يكون من حق الجزائريين رفض الحل الدستوري المتمثل في انتقال السلطة الرئاسية إلى رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، وقد يكون من حقهم أيضا رفض مشاركة رموز الفساد في أي حوار وطني، ولكن كيف يمكن تغيير وجوه النظام كلهم بمن فيهم قايد صالح والقيادات العسكرية، ومن يرتبط بهم من رجال السياسة والإعلام والمال، بل كيف يمكن "تحييد" استراتيجيات القوى الإقليمية والدولية الراعية للثورات المضادة، إذا ما بلغ التناقض بين المطالب الشعبية ومصالح المؤسسة العسكرية حدّ القطيعة، المانع لأي حوار ولأية تنازلات متبادلة تفرضها موازين القوى؟ 

بعيدا عن المزايدات الثورية وعن المنطق"الإرادوي"، يبدو أن على الحراك الجزائري أن يُخفّض من سقف مطالبه الحالية وأن يؤمن بمنطق التراكم والصيرورات التاريخية طويلة الأمد، كما يبدو أن عليه التحرر من براديغم الثورة ليتموضع في إطار مشروع انتقال ديمقراطي "سلس". وهو انتقال يفترض وجود محاور/شريك من داخل المنظومة القديمة (المؤسسة العسكرية). ولكنّ ذلك كله يفترض وجود نخب وطنية تستطيع صياغة المطالب الشعبية وإدارتها سياسيا، تفرض تنازلات "مؤلمة" (ولكنها معقولة ومقبولة) على المؤسسة العسكرية، وما يرتبط بها من مراكز القوى السياسية والاقتصادية. وقد يكون على ممثلي الحراك الشعبي أن يقدموا تطمينات لقيادات المؤسسة العسكرية كتلك التي تمتع بها بينوشي في الشيلي أو القيادات العسكرية في الأرجنتين، كما قد يكون عليهم أن يقبلوا في المستوى المنظور بانتزاع بعض سلطات المؤسسة العسكرية، وتخفيف قبضتها على المشهد العام في الجزائر دون السعي إلى الدفع بها إلى هامش السلطة أو خارجها. وقد يبدو هذا الاقتراح "إصلاحيا"، بل متخلفا عن الوعي الثوري وعن المطالب الراديكالية للشارع الجزائري، ولكننا نرى أنه اقتراح واقعي سيُجنب الجزائر جملة من السيناريوهات الكارثية، التي قد لا تسرّ الثوريين ودعاة القطيعة مع المنظومات الحاكمة، سواء أكانوا من الجزائريين أم كانوا من العرب المتعاطفين معهم.