خلال الأيام القليلة الماضية، انتشرت بصورة متسارعة في الشوارع المصرية الدعاية المرتبطة بـ"تأييد" التعديلات الدستورية، وكأن أحدهم أعطى إشارة البدء في لحظة واحدة.
ما الذي تهدف إليه التعديلات المقترحة؟
يمكن تقسيم النصوص المقترحة إلى قسمين، منها ما لا يشكل خطرا جسيما على الحريات والديمقراطية، ومنها ما يمس أسسهما. وقد دأب الدكتور سمير عليش على وصف القسم الأخير بـ"التعديّات الدستورية"، القسم الأول مثل زيادة نسبة المرأة في المجلس النيابي، أو تثبيت نسب العمال والفلاحين والشباب والمسيحيين.. إلخ، والمادة المتعلقة باستحداث مجلس الشيوخ، لكن طريقة تشكيله وتحديد نسبة الثلث لتعيينات رئيس الجمهورية يخل بطبيعة الدور النيابي للأعضاء، ويعيق أي تمرير لما يخالف توجه النظام، وأخيرا المادة المتعلقة بخلو منصب رئيس الجمهورية لظرف مؤقت، وسماحها بوجود نائب للرئيس، وكيفية إدارة شؤون البلاد إذا خلا المنصب، فهذا القسم فيه ما يمكن اعتبار أن مواده لا تمس صلب الديمقراطية.
الأفضل ترك الصناديق خاوية، كنوع من الاحتجاج على المشاركة في مسرحيات النظام
وجدير بالذكر أن اعتبارها لا تمس الديمقراطية لا يعني الموافقة على مبدأ التعديلات بالأساس، أو رفضه، فهذه مجرد أوصاف لحالة راهنة، دون الخوض في تفاصيل القبول أو الرفض.
أما القسم الثاني فهو المتعلق بتعديلات المواد: (140، 185، 189، 190، 193، 200، 204، 234). تتعلق المادة 140 بمدد الرئاسة، وهي تجعل المدة ست سنوات بدلا من أربع، وستضاف مادة انتقالية تسمح للسيسي، بالترشح على هذا الأساس واعتبار أنهما مدتان جديدتان، كأنه لم ينته من مدة وشرع في الأخرى، وهو يشبه قول المصريين "صفّر العداد"، لتستمر ولايته -حال إقرار المادة- لاثني عشر عاما أُخَر.
أما المواد (185، 189، 190، 193) فهي متعلقة بالهيئات القضائية، وتعصف بما بقي من استقلال للقضاء، فهي تجعل سلطة تعيين رؤساء الهيئات القضائية بيد رئيس الجمهورية، بل حتى رئيس المحكمة
الدستورية العليا، يكون معينا من رئيس الجمهورية بعد ترشيحات الجمعية العمومية، كما تسمح هذه التعديلات لرئيس الجمهورية أن يعين النائب العام، بعدما كانت موافقته إجرائية فقط، مما يفني توازن الاستقلال بين السلطات الثلاث.
والمواد (200، 204، 234) تتعلق بالقوات المسلحة، وفي تقديري هي أخطر المواد، لأن دسترة الاستبداد يمكن تغييرها عند توفر مناخ من الحرية، لكن تبقى مواد مؤسسة القوة العسكرية عصيّة على التغيير في ظل وجود قادة توافقوا مع أوجه الاستبداد وعاشوا على الامتيازات غير المحدودة.
يضيف المقترح في المادة 200 إلى اختصاصات القوات المسلحة "صون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد" وهي مادة ملغّمة؛ إذ تسمح للجيش أن ينقلب على أي نظام حكم بهذه الحجج الفضفاضة، لتتم دسترة الانقلابات فيما بعد، كما يفيد النص المقترح في المادة 204 توسيع مساحة جواز المحاكمات العسكرية للمدنيين، أما المادة 234، فهي تجعل اختيار وزير الدفاع منوطا بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ليصير المجلس صاحب قرار فوق قرار الرئاسة، وتصبح المؤسسة بهذه التعديلات فوق الدولة كلها.
بين المشاركة والمقاطعة
فإذا كانت المواد تقوّض ما بقي من هامش ضئيل للحريات، فهل الأوفق أن يشارك المصريون بالتصويت رفضا لتلك المواد أم مقاطعة الاستفتاء عليها؟
تمكن ملاحظة أنه منذ أول إجراء "تصويتي" عقب الانقلاب العسكري منتصف 2013، كان هناك فريقان، أحدهما يدعو للمشاركة والآخر يدعو للمقاطعة، واستمر هذا الجدل مع كل الإجراءات التصويتية، وانبنى الخلاف بين الطرفين، حول مدى أهمية مزاحمة النظام الجديد والدخول معه في معارك ذات نفس طويل، تخصم منه وتضيف خبرات للمعارضين له، وفي المقابل كان مبدأ رفض المشاركة مبنيا على أن الاشتباك في الانتخابات يعني إضفاء الشرعية على نظام غير شرعي، لأنه هيمن بقوة السلاح.
ما نراه أن خطوات تعديل الدستور تسير بثبات، في حين أن دعوات المشاركة لا تزال نخبوية، مقصورة على جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، دون تأثير حقيقي في الشارع
والحق أن لكل
رأي من الإثنين وجاهة، لكن الإشكال الذي لا تزال المعارضة المصرية واقعة فيه، أنها لا تقدر على التوافق حول رأي واحد، كما أن كل فريق يرمي خصمه باتهامات بسبب موقفه، مما يجعل الجهود غير فعّالة، ويجعل الموقفين غير ذي أهمية في التأثير على الصراع مع النظام الحالي.
ما نراه أن خطوات تعديل الدستور تسير بثبات، في حين أن دعوات المشاركة لا تزال نخبوية، مقصورة على جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، دون تأثير حقيقي في الشارع، ولو كانت هناك حملة حشد وتعبئة تقدر على دفع الشارع إلى المشاركة والتصويت برفض التعديلات، فسنكون أمام خطوة للأمام في الصراع مع السلطة المستبدة الحالية، أما إذا استمرت الدعوات بوتيرتها الضعيفة، فالأفضل ترك الصناديق خاوية، كنوع من الاحتجاج على المشاركة في مسرحيات النظام، لا من أجل عدم منح النظام شعبية، فهو قد مُنحها منذ سنوات على المستوى الدولي، ولا يعنيه كثيرا ـ في المرحلة الحالية ـ أن يحوزها داخليا.
حشد الشارع لا يحتاج فقط إلى التواصل على الأرض، لصعوبة ذك في ظل المناخ الأمني القاسي، ويمكن لحملات وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية المرئية أن تُسهم في إحداث الحشد، وللأسف لم يحدث ذلك، وربما كان السبب عدم وجود موقف موحّد للمعارضة التي تدرك أغلبها أن رسائل الاحتجاج بالوسائل السلمية هي الأقل كُلفة في التعامل مع النظم المستبدة، وأحيانا يكون الاحتجاج بالمشاركة، وأحيانا يكون بالعزوف، وبلوغ الرسالة للمعنيين مرهون بوَحدة الموقف.