يقف المشهد العربي اليوم على مفترق طرق بين حصاد موجة ثورية أولى انتهت أغلبها إلى ما يشبه الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي وبين موجة جديدة لا زالت في أطوارها الانفجارية الأولى في السودان والجزائر. المشهد شديد التعقيد من جهة عدد الفواعل المكونة له أو من جهة المستويات الكثيفة التي يتحرك فوقها.
رغم الفشل الذي منيت به الموجة الثورية الأولى فإن الحراك الشعبي لم يتوقف
في سوريا وليبيا واليمن ومصر سقطت
الثورات الشعبية ضحية إخفاقات جمّة منها الداخلي ومنها الخارجي، لكن النصيب الأوفر في هذا الإخفاق إنما يعود أساسا إلى عجز المكونات الداخلية من نخب وسياسيين عن تجاوز الصراعات البينية والتخلص من رواسب النظام القديم وتحقيق الحدّ الأدنى من مطالب الحراك الثوري.
لكن رغم الفشل الذي منيت به الموجة الثورية الأولى فإن الحراك الشعبي لم يتوقف بل اندلعت نفس الاحتجاجات الجماهيرية بنفس الخصائص ونفس المطالب في رقعة جغرافية جديدة معلنة عن تواصل الثورات الشعبية. لكن السؤال الذي يطرح اليوم إنما يتمثل في مدى قدرة الموجة الجديدة على النجاح فيما فشلت فيه الموجة الأولى وتجاوز المطبات التي سقطت فيها.
خطايا الموجة الثورية الأولى
كثيرة هي الأسباب القادرة على تفسير الفشل الذي منيت به الثورات الشعبية، لكن يمكن القول إن أسبابا بعينها كانت حاسمة دون غيرها في تحديد طبيعة المشهد الذي نراه اليوم. لعل أبرزها يتمثل في عجز القوى الثورية عن قياس قدرة الدولة العميقة على إعادة بناء نفسها والعودة من جديد لتصدر المشهد واستعادة المجال الذي أزاحتها منه الثورة. فالنظام العسكري الحاكم في مصر أو في ليبيا لم يتبخر بل تمكن في فترة وجيزة من امتصاص الصدمة الثورية ومن الانقلاب عليها وإعادة التمركز في السلطة.
ثاني هذه الأسباب يتجلى في نقص الخبرة لدى القوى الثورية التي لم تنجح في تجاوز خلافاتها الأيديولوجية وسقطت ضحية صراعات الهوية والانتماء وأغفلت الاستحقاقات الحارقة للمسار الثوري التي كان على رأسها تفكيك الدولة العميقة ومنع تجددها. فحتى الفصيل المحافظ وعلى رأسه الإسلاميون لم يستوعب طبيعة المرحلة ومكّن النظام القديم من فرصة كبيرة أعادته بسرعة إلى الساحة من جديد.
لقد حسب الإسلاميون أن الساحة قد استتبت لهم وأن خصومهم السياسيين سواء من كانوا في السلطة أو في المعارضة لن يكونوا قادرين على إزاحتهم من المشهد بسهولة مع التعاطف الكبير الذي يحظون به في الشارع. لكن الأمور تغيرت بسرعة هائلة خاصة بعد نجاح الانقلاب المصري الذي كان منعرجا حاسما في مسار الثورات حيث لم يكن ما بعده كمثل الذي كان قبله.
لا يبدو الخيار الاسلامي في شكل الحكم مطروحا بالشكل الذي طرح به في الموجة الثورية الأولي
ثالث هذه الأسباب تظهر في تفتت المجتمع السياسي نتيجة سنوات من تجريف الاستبداد للقوى المدنية والسياسية وقمعها وهو ما مكّن القوى الاقليمية والدولية من التدخل المباشر في مسار الثورات وحرفها عن وجهتها. لم تنتبه القوى الثورية إلى القدرة الهائلة للفواعل الخارجية في التأثير على المشهد الداخلي، إذ نجحت الكيانات
العربية المعادية للثورات خاصة الخليجية منها مدعومة بضوء أخضر دولي في ضرب المسارات الإقليمية وفي تحويل الساحات إلى مجالات للفوضى والاقتتال.
مخاطر الموجة الثانية
لا تنفصل الموجة الجديدة من الاحتجاجات عن الموجة السابقة في شروطها وأسبابها وأهدافها. لكنها تتميز بوعيها بأسباب فشل الموجة الأولى وهو ما يمنحها قدرة أكبر على المناورة والعمل رغم أن السياق العام لم يتغير كثيرا. فمن جهة أولى يكاد التهديد العسكري في الجزائر والسودان يمثل أهم الأخطار المتربصة بالحراك بإعتبار السلطة العسكرية هي الأداة الحقيقية الحاكمة في كلا البلدين. هذا الوعي يظهر في الرفض المعلن للقوى الثورية لبقاء العسكريين في السلطة ولو لمرحلة انتقالية وعيا منهم بتجربة المجلس العسكري في مصر والتي تطورت فيما بعد إلى انقلاب صريح على السلطة الذي توّج مؤخرا بالتعديلات الدستورية التي ستفتح الباب من جديد أمام حكم عسكري مطلق.
من جهة ثانية لا يبدو الخيار الاسلامي في شكل الحكم مطروحا بالشكل الذي طرح به في الموجة الثورية الأولي التي مكنت الجماعات الاسلامية من الوصول إلى السلطة في مصر وتونس وليبيا وإن بنسب مختلفة. فالطرح الإسلامي بالشكل الذي نعرفه لم يعد مغريا خاصة وأنه يمثل أحد أهم الأسباب التي تدفع الدولة العميقة إلى الانقلاب على الحكم بمباركة دولية.
لكن يبقى التهديد قائما من جهة قدرة القوى الاقليمية المعادية للثورات على اختراق الحراك الشعبي وتوجيهه وعلى دعم قوى النظام القديم من أجل منع خروجها من المشهد وهو ما يبدو جليا اليوم في الجزائر والسودان عبر التدخلات الخليجية المباشرة خاصة من قبل السعودية والإمارات.
تُظهر الموجة الجديدة إذن انحسارا نسبيا للمخاطر الداخلية من جهة وثبات مستوى التهديد الخارجي إقليميا ودوليا من جهة أخرى نظرا لما تمثله الجزائر والسودان من أهمية استراتيجية وجيوسياسية.
أزمة المخارج الممكنة
لابد من الإشارة هنا إلى أن المشهد القاتم في مجال الموجة الثورية الأولى وخاصة في مصر وليبيا وسوريا وتونس واليمن لا يزال يتفاعل ولم يصل بعد إلى نقطة النهاية. وهو ما يعني أن الموجة الجديدة لا تزال قادرة على التأثير بقوة في المسارات التي سبقتها سلبا أو إيجابا لأن نجاح الموجة الثانية في تجاوز أخطاء الأولى سيؤثر كثيرا وبعمق في التجارب الأخرى المجاورة.
أصبح بوسع التجارب الثورية الجديدة أن تنجو من مطبات الثورات الأولى لأن المشهد قد اختلف كثيرا عمّا كان عليه
إذا استطاعت ثورة الجزائر والسودان تحييد الفاعل العسكري داخليا والحدّ قدر الإمكان من تدخل الأطراف الخارجية فإن ذلك سيكون انتصارا كبيرا لكلا التجربتين. فلا يُطلب اليوم منهما تحقيق كل المطالب الثورية بسبب صعوبة تحقيق ذلك أولا وبسبب خصوصية السياق ثانيا وتمكّن النظام العسكري في كلا النموذجين من الدولة ومن أجهزتها.
لقد أصبح بوسع هذه التجارب الثورية الجديدة أن تنجو من مطبات الثورات الأولى لأن المشهد قد اختلف كثيرا عمّا كان عليه خاصة من جهة انكشاف قوى الثورة المضادة وأدواتها الداخلية والخارجية. لكن هذا لا يعني البتة أن الدولة العميقة لا تملك آليات جديدة لإفشال المسارات الانتقالية التي تُعقب سقوط واجهة النظام وإن صارت خياراتها محدودة جدا.
يبقى المشهد العربي إذن مشرّعا على كل الاحتمالات ويبقى مطلب التغيير قائما لا يتزحزح مهما أوغل النظام الرسمي في القتل وفي التآمر وفي رسم الانقلابات بل إن الحراك الشعبي لا يزال متمسكا بسلميته وبمطالبه المدنية المشروعة في الحرية وفي محاربة الفساد. وما دامت هذه المطالب قائمة بنفس الوسائل والشروط فإنها ستتمكن في النهاية من تحقيق مبتغاها مهما كلفها ذلك من الشهداء ومن ضريبة الحرية.