عندما تعلن وزيرة خارجية دولة
جنوب أفريقيا، لينديوي سيسيولو، مؤخرا، عن خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي لدى دولة
الاحتلال، وسحب السفير بشكل نهائي من تل أبيب، وتحويل السفارة لمكتب ارتباط فقط، بعد سحب السفير مؤقتا احتجاجا على الاعتداءات
الإسرائيلية على متظاهري مسيرات العودة، فنحن نتحدث عن خطوة كبيرة وغير مسبوقة لنصرة الشعب
الفلسطيني على المستوى الدولي، وفي هذه المرحلة بالذات، لماذا؟
يؤكد موقف جنوب أفريقيا على وقوف معظم شعوب الأرض بجانب الحق الفلسطيني، رغم أن المستوى الرسمي، وفِي إطار لعبة المصالح وتوازنات القوى، يسارع لاسترضاء دولة الاحتلال، وتطبيع العلاقات معها، ويفتح الأبواب على مصراعيها لقادتها، في ظل إدارة أمريكية متطرفة تتبنى الموقف الإسرائيلي، لأسباب أهمها دينية مسيحية تعتقد بوجوب دعم اليهود للعودة إلى فلسطين وبناء الهيكل، كمقدمة لعودة المسيح قبل يوم القيامة.
إن قرار جنوب أفريقيا، وبناء على طلب الحزب الحاكم، يعكس توجها رسميا مستندا إلى قاعدة شعبية عريضة، وليس لذر الرماد في العيون، كما حصل في بعض محطات الصراع مع الاحتلال من دول عربية أو صديقة، أي أنّ بريتوريا قررت أن تسبح عكس التيار الدولي الرسمي، مما يرفع من قيمة القرار.
لعل ما يضفي على هذا الخطوة التاريخية أهمية إضافية، هو البعد الرمزي للجهة التي أصدرت القرار، فجنوب أفريقيا، وعلى وجه الخصوص المؤتمر الوطني الحاكم، تاريخها عظيم ومشرف في الصراع ضد نظام الفصل العنصري، الذي حكم البلاد لأكثر من أربعة عقود، مما حول جنوب أفريقيا وقادتها، وفِي مقدمتهم الزعيم الراحل نيلسون مانديلا إلى أيقونات دولية في ساحات النضال ضد أنظمة الفصل العنصري.
اليوم تعلن جنوب أفريقيا بهذا الإجراء عن انطلاق قطار المقاطعة الدولية الرسمية، في مواجهة حملة الهرولة التطبيعية التي انطلقت لدعم الاحتلال، وبقائه على حساب شعبنا وحقوقه التاريخية. وقد تبدو هذه الخطوة بسيطة وغير مؤثرة، لكن من يدرس تاريخ الشعوب ونضالاتها يدرك أن الانتصارات الكبرى تحققت بعد سنوات وعقود، أطلقت شرارتها مثل هذه الخطوات الصغيرة.
إن تاريخ جنوب أفريقيا ونضالها ضد نظام الفصل العنصري دليل على ذلك، فالبدايات كانت صعبة ومكلفة؛ لأنها واجهت مقاومة شرسة على المستوى الدولي، خاصة في المعسكر الغربي، الذي آثر مصالحه المادية على قيمه التي تغنى بها طويلا، لكنه في النهاية رضخ للضغوطات الشعبية المتعاظمة، وفرض على النظام العنصري في جنوب أفريقيا مقاطعة شاملة حرمته سبل الاستمرار، فجاء صاغرا يطلب التفاوض لإنهاء أحد أسوأ الأنظمة التي صممها البشر للحكم والإدارة.
رغم الاختلافات الجوهرية بين حالتي فلسطين وجنوب أفريقيا، سواء في السياقات التاريخية أو منطلقات الفكرة
العنصرية، لكن ما يربطهما كثير وكبير، أهمه النضال المشترك ضد نظامي الفصل العنصري، الذي جمعت بينهما مصالح ومبادئ مشتركة، فدعما بعضهما سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا بشكل غير محدود.
لقد شهد عام 1948 تولى الحزب الوطني الحكم في جنوب أفريقيا، وتحويل نظام الفصل العنصري إلى نظام الدولة الرسمي، وهو ذات العام الذي أعلن فيه عن قيام نظام الفصل العنصري في فلسطين، وأطلق عليه اسم "إسرائيل". ويشعر الجنوب أفريقيون، كما سمعناه منهم مباشرة، أنّ في رقبتهم دين للفلسطينيين؛ لأنهم من أوائل وأكثر من دعم نضالهم ضد العنصرية، وساهموا بتدريب مناضليهم على السلاح بالمعسكرات الفلسطينية.
تعتبر جنوب أفريقيا دولة كبرى وصاعدة، تحمل الهم الفلسطيني في المحافل الدولية والإقليمية، وتتصدى للانفتاح الأفريقي على دولة الاحتلال، ومحاولاتها المستميتة للانضمام للاتحاد الأفريقي، وبذلت بريتوريا جهودا كبيرة لجمع الفرقاء الفلسطينيين لإنجاز المصالحة، كما أنّ أضخم الأنشطة الشعبية والمدنية الداعمة لحركة المقاطعة الدولية (بي دي إس)، تنطلق من مدن جنوب أفريقيا، خاصة كيب تاون.
إننا كفلسطينيين نقدر عاليا ما تقوم به حكومة جنوب أفريقيا لخفض تمثيلها الدبلوماسي في دولة الاحتلال، وندرك أهميتها، ونتطلع إلى اليوم الذي تفرض فيه المقاطعة الشاملة على هذا الكيان العنصري، وهي مناسبة لتذكير دول العالم، خاصة دولنا العربية، بأنّ هذا الكيان الذي يمثل أقبح صور العنصرية والفاشية في العصر الحديث، يتطلب مقاطعته، وعزله بالكامل، بدلا من التسابق لإرضائه وتجميل صورته.
إنّ شعبنا الفلسطيني سيسجل بأحرف من نور أسماء من وقفوا بجانبه في معركته المصيرية مع هذا الكيان العنصري، وجنوب أفريقيا في هذه الخطوة تقف في الجانب الصحيح من التاريخ؛ لأنه لا حيادية في المعارك التاريخية الكبرى ذات الأبعاد الأخلاقية، وسيندم كل من يقف بجانب الظلم والقهر والعدوان، ولكن قد يكون بعد فوات الأوان.