أنشئت جماعة
الإخوان المسلمين بعد سنوات قليلة من إلغاء الكيان السياسي الوحيد والأخير الذي كان يمثل المسلمين في العالم لمدة 600 عام، وهي الخلافة العثمانية، كتعبير عن رفض الحملة العالمية التي حاربت هذه الإمبراطورية لفترات طويلة من تاريخها؛ باعتبارها عائقا أمام استغلال ثروات هذه المساحات الشاسعة من بلاد المسلمين، ولاعتبار الخطورة التي تمثلها هذه الخلافة من حيث الثقافة التي تتبناها، وأنها لا تقبل الذوبان، والعدد الكبير من المسلمين الذين إن تمسكوا بمرجعيتها فسيقاومون الهيمنة والاستبداد والنهب المنظم لثرواتهم.
وقد تزامن إسقاط الخلافة ومؤسساتها مع حراك آخر كانت تقوده دول الغرب والشرق المتآمرة على إسقاط الدولة العثمانية في منطقة العرب، مثل دعم الشريف حسين، تحت وهم وحدة العرب واستقلالهم عن الدولة العثمانية، وكذلك دعم آل سعود بعد إعادتهم من الكويت (بلد المنفي لهم)، وذلك في عام 1901م، للسيطرة على منطقة الخليج الواعدة بالاكتشافات البترولية وقيادتها تحت السيطرة الاستعمارية لتنفيذ رغبات الإنجليز في المنطقة.
لذا، كان لإنشاء جماعة الإخوان المسلمين على نهج الإسلام الوسطي، بعيدا عن الغلو والتطرف، أثر كبير في عداوة المشروع الاستعماري والمشاريع المرتبطة به في بلاد العرب حتى هذه اللحظة. لقد تم خداع الشريف حسين بحلم الوحدة العربية والدولة الكبيرة، ولكن لرفضه طلب الإنجليز باستيطان اليهود والحركة الصهيونية في فلسطين، تم خلعه، وتآمروا عليه، وسهّلوا احتلال الحجاز التي كان يحكمها بواسطة آل سعود.
وفي ظل هذا العلو للظالمين وخشيتهم ممن يقاومهم، واجه الإخوان حملة تشكيك وكراهية من كل عملاء الاستعمار في المنطقة، بعد تقسيم سايكس بيكو للدولة العثمانية وإشغال العرب بأنفسهم في خلافات وحروب طاحنة؛ ما زال أثرها حتى اليوم. وفي ظل هذه المواجهات، اضطر الإخوان بشكل خاص، والإسلاميون بشكل عام، إلى
الهجرة من بلادهم تحت ضغوط الاعتقال والقتل والتشويه والتلفيق؛ إلى حيث وجدوا الأمان النسبي.
ويمكن تلخيص هذه الهجرات في ثلاث كبرى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والثانية في السبعينيات والثمانينيات، والثالثة في بداية الألفية الثانية (من عام 2012 وحتى اليوم). ومهما تعددت الأسباب، فيجمعها الاضطهاد والتلفيق والاعتقال والتعذيب والقتل بغير حساب، وسط مناخ من الفساد والاستبداد، كرد فعل لمواقف الإخوان وقتها من رفض نظام القهر والاستبداد السياسي في وقت عبد الناصر، إلى رفض التقارب
المصري الصهيوني، والفساد الذي استشرى في عهد السادات. وكانت حركة الهجرة قد تقزمت في زمن المخلوع مبارك، رغم فساده واستبداده.
فبعض النوافذ المفتوحة للعمل، مثل النقابات والمحليات والبرلمان، قد قللت من رغبة النزوح، في محاولة للمشاركة المجتمعية والسياسية التي فتحت نوافذها رغم الملاحقات الأمنية والاعتقالات المستمرة والتضييق الذي لاقاه الإخوان طوال تلك الفترة. ثم كانت الهجرة الأكبر والأخطر بعد الانقلاب العسكري على سلطة الإخوان التي تولوها بالانتخابات، لكنهم لم يكونوا مؤهلين بشكل كبير لإدارتها بمهارة السياسيين مع إخلاص واجتهاد المخلصين.
في الأولى قدر الله لدعوة الإخوان أن ينتشر أبناؤها في الدنيا لتوطين الفكرة ونشرها، وفي الثانية كانت المهمة إنشاء المؤسسات التي تحمل الفكرة وتعمل بها وسط البلاد التي تحيا فيها في إطار قوانين كل دولة بشكل رسمي، مما زاد من رسوخها وتوطينها، وانجذب إليها الآلاف في المهجر.
وأعتقد أن الهجرة الثالثة التي ما زالت قائمة يجب أن يكون لها هدف مغاير يناسب الزمان والمكان وحال الأمة الآن، وهو ما أطلق عليه مهمة تكوين الكوادر، وتدريب المتخصصين، وتأهيل القيادات التي تحتاجها الأمة في المستقبل القريب، كي تنجح ثورات الشعوب الإسلامية وتستطيع بناء قدراتها الذاتية، لبناء دولها وأمتها بشكل احترافي؛ لاستعواض النقص الكبير الذي لازم الثورات العربية في موجتها الأولى.
وتدل بعض الإحصاءات الأخيرة (2012) على أن إجمالي عدد المهاجرين المصريين لأسباب متعددة، منها الاضطهاد الديني (مسلمين ومسيحيين)، والاضطهاد السياسي، والتحصيل العلمي، والبحث عن عمل، بلغ 5.5 ملايين مصري، بنسبة 6,7 من إجمالي عدد السكان، منهم 4 ملايين في أوروبا، وليس هناك حصر أو أرقام تخص الإسلاميين أو الإخوان.
فهل ينتبه الإسلاميون بشكل عام، والإخوان بشكل خاص، لهذا الدور المطلوب منهم في خضم هجرتهم الثالثة؟ لعل الله أراد بهم خيرا، "ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة"، ويعلم كل إنسان كيف كان وكيف سيكون؟ ولتتم مراجعة شاملة في الرؤية والأهداف المرحلية والوسائل، وكيفية الإدارة والقيم الحاكمة لها، فلعل ذلك تنبيه لمهمة ضخمة قادمة استلزم لها دماء وشهداء وعذابات وابتلاءات ومحن وهموم ومصائب تجرعها أبناء الحركة الإسلامية ومحبوها، وكل الأحرار أيا ما كانت انتماءاتهم، لصياغة رؤية وإعداد منهج وتفصيل خطة، والقيام بإعداد قيادات تناسب المرحلة التي يريدها الله لانتصار الحق بحق، بعد أخذ الاسباب بشكل صحيح متجرد.
هل يدرك المهاجرون أن تنوعهم مصدر قوة، وأن وجودهم بعيدا عن ضغوطات الحكام العملاء، يفتح لهم أبواب تحصيل العلوم، وتدريب وتأهيل الخبراء والمتخصصين والقيادات والعلماء، في فنون وعلوم لم نجدها مع من حكم منهم في أوطانهم، فكان الانقلاب عليهم سهلا ميسورا؟ لو أدرك ذلك الإسلاميون والإخوان تحديدا ما تركوا أولادهم ومحبيهم دون رؤية وخطة تجمعهم وتحشدهم، وتعتني بهم استعدادا ليوم تمكين يرونه الأعداء بعيدا ونراه قريبا، والله على كل شيء قدير.. "وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".