في خضم إعلان إمداد حالة الطوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر إضافية، وحظر التجوال في بعض مناطق
سيناء، والإعلان عن بيع 20 مليون متر مربع من أملاك الدولة للقطاع الخاص للحصول على سيولة مالية لتسديد بعض فوائد الديون، حسب تصريح وزير قطاع الأعمال للتلفزيون
المصري، تحتفل مصر بإعلان نتائج التعديلات الدستورية التي ارتقبها الجميع ليكون ناتجها دستورا متضاربا؛ يحمي نفسه من خلال مادة تمنع أي تعديلات به، ثم التعديل الفعلي على مواد خاصة بمدد بقاء الرئيس وعدد سنوات حكمه، في مشهد ساخر شهده العالم، بدءا من موقعة "الكراتين" التي لم يشهدها العالم بهذا الشكل المهين لشعب بهذا الحجم من قبل، ومرورا بالعدد الهزيل، والممارسات المكشوفة والممجوجة للنظام، من استخدام وسائل غير أخلاقية لدفع الناس للتصويت مرغمين، باستخدام كافة الوسائل القمعية، من التهديد الأمني، والتهديد بقطع الأرزاق، وتهديد الموظفين، وترويع المواطنين في الشوارع وعلى طرق السفر، وتخويف سائقي الحافلات والسيارات بنقل الركاب رغما عنهم إلى لجان التصويت، هذا غير استخدام أساتذة الجامعات، مثل المشهد الذي تابعه العالم لرئيس جامعة القاهرة وغيره وهم يحثون الطلاب ويساومونهم على التصويت، مقابل الحصول على درجات أو منح أو إعفاء من مصروفات المدن الجامعية.
يجتمع المشهد المصري متسما بحالة من السخط العام على كل الجهات والمحاور.. سخط عى النظام الذي ينكشف وجهه القبيح مع كل ممارساته مع الشعب وتعاطيه مع عدم استجابته لأدوات القمع بمحاولة فرض واقع جديد، واقع وإن كان سمته الانسحاب السلبي من المشهد، إلا أنه ينذر بما بعده من تحوله لحالة غضب ربما ينفجر مع أول ضغطة مرتقبة وهي قريبة.
سخط شعبي على نظام لم يعد يعنيه حياة الناس، بقدر ما يعنيه فرض الهيمنة الكاملة على كل صوت، ولو كان هامسا ببعض النصح أو المعارضة، ليكون جزاؤه الوحيد الاعتقال أو التصفية، وسياسة لا هم لها إلا التضييق على البسطاء وامتصاص ما تبقى من دماء لديهم، مع إصرار عجيب على الاستمرار في نهج تلك السياسة، ولو كان المقابل كرسي ونظام دون دولة وشعب.
سخط شعبي من دول الجوار التي تعاني من تدخل سافر في شأنها الداخلي عبر التخابر، مثل السودان، لإفشال الثورة، أو المشاركة في الاعتداء بالسلاح، مثل ليبيا التي يحارب مجرمها حفتر بغطاء دولي وبمشاركة قوات مصرية، أو غزة الفلسطينية التي يحاولون الضغط عليها لقبول صفقة القرن بالتخلي عن أراضيها المقدسة، في مقابل أراض مصرية في سيناء، في ظل حالة من الرفض المطلق والارادة الحديدية لمواجهة ذلك، ليظهر النظام المصري في حالة حصار كبير، لا أرى له مخرجا منها، إلا بالرحيل.
هل حرر العسكر سيناء أم لحقت مصر بها؟
أطل علينا الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل من جديد، في الذكري السنوية لتحرير أرض سيناء كاملة من الاحتلال الإسرائيلي، لتحتفل البلاد به بينما تقع سيناء كاملة في ظل الأسر مرة أخرى.
ترى ذلك جليا بمجرد عبورك نفق الشهيد أحمد حمدي للضفة الأخرى من القناة، ليتحول التعامل معك كمصري إلى تعامل أمني بحت.. بطاقات هوية وإقامة، ولا عقود تمليك لمنزلك الذي ورثته عن آبائك وأجدادك بموجب قانون، ولا يحق لك التجنيد وتأدية الخدمة العسكرية وكأنك لست جزءا أصيلا من أبناء مصر، وملاحقة أمنية ووظيفية، وتوزيع مواد معيشية ببطاقات وطوابير انتظار..
هذا من جانب، وعلى جانب آخر، كلما توغلت في عمق المحافظة الحدودية أكثر، فسوف ترى مشاهد من الخراب لم تعرفها مصر منذ عقود الحرب المباشرة مع الكيان الإسرائيلي.. أحياء وقرى ومدن أزيلت تماما، وتم تهجير أهلها قسرا دون تعويض ودون سبب معروف لديهم. تم إخلاء الشريط الحدودي بشكل كامل، وانتهت ما تسمى برفح المصرية، وتمت إزالة مزارع النخيل والزيتون، وتم ردم الآبار وطمس معالمها وكل مظاهر الحياة الخضراء في تلك المنطقة.. مئات من القتلى المدنيين في عمليات يدّعي النظام أنها تبادل إطلاق نار في خضم ما يسميه الحرب علي الإرهاب، لتتحول أرض الفيروز في بضع سنوات من مدينة يمكن أن تحيا على خيراتها البلاد بأسرها، وهي التي تمثل 1/16 من المساحة الإجمالية للبلاد، لأرض خربة تنعق فيها قوى ظلامية لا تعرف سوى القتل والتدمير والحرق والتجريف والتنازل عن بعض جزرها في صفقات مشبوهة..
كل هذا يتم خلسة في ظل حكم عسكري غير مؤهل لأداء أي دور وطني إلا أن يعود لثكناته، خاضعا لسياسة من يستطيع إدارة أمور البلاد بمعرفة ووطنية وقوة وحرية، وفي ظل حالة غياب شعبي، حيث استطاع النظام العسكري أن يمحور اهتمامات المواطن المصري حول عجزه أو قدرته على الحصول على لقمة العيش التي ما عاد يملك لها سبيلا، ويهلكه في اهتمامات فردية يومية تتعلق باحتياجات أساسية لا تعطيه الفرصة لينتبه أو يفيق، ولنصل للنتيجة التي حذر منها قائد الانقلاب العسكري في مصر بنفسه؛ حين قال إن العسكر إذا حكموا فقد تتأخر البلاد لأربعين سنة ماضية، وهو ما تم بالفعل.
فنذ أن اعتلى العسكر كرسي الحكم بعد ثورة يناير العظيمة، وقد فقدت البلاد عشرات من السنوات في مسيرة تحقيق ذاتها، لتضاف تلك الحصيلة إلى أكثر من سبعين سنة من الخراب في ظل الحكم العسكري، منذ تموز/ يوليو 1952. لقد رفعت البلاد علمها على أرض سيناء رغم اقتطاع جزء من أراضيها وتغيير مسماه لإيلات، وارتضى الشعب بالأمر حين كانت هناك مساحة لأن يحيا بشكل شبه آدمي حتى ثار عليه في 2011، لتسوء الأحوال بصورة مبالغ فيها بعد ما يقرب من ثماني سنوات على تلك الثورة المباركة، لتكون المحصلة اليوم في ذكرى الاحتفال إعادة احتلال الأرض بصورة أكثر دمامة؛ صورة تسليم وتنازل عسكري مقنن.
قراءة في أرقام الاستفتاء
وفي ظل حالة التخبط التي تحياها البلاد، يُطرد الصحفيون من لجان الاقتراع، في استنساخ لمشهد انتخابات 2010 (تلك الانتخابات الفجة التي كانت القاصمة في عهد الرئيس الأسبق مبارك)، ويُمنع القضاة من إعلان النتائج داخل اللجان الفرعية. ويشهد العالم على فراغ اللجان وسوق الناس لها سوقا رغم دعوات مبكرة للحضور، ورغم اشتراك بعض أطراف المعارضة في الخارج لحث الناس على الإقبال والتصويت بلا.. إلا أن الحضور كان هزيلا، وربما فاق عدد اللافتات التي أجبر أصحابها على نشرها أكثر بكثير ممن صوتوا على تلك التعديلات، لنقف أمام حقيقة واضحة يحاول النظام إخفاءها.. ليس النظام وحده، وإنما تحاول النخبة التي دعت للنزول والتصويت السلبي أن تنكرها، وهي أن الشعب لم يعد يثق بأحد، وأنه حين اتخذ قراره بالمقاطعة لم تستطع جهة أن تثنيه أو تقنعه بتعديل قراره.
والحقيقة أنني كنت قد حسبت أن الأمر يتعلق بظاهرة التكاسل عن الذهاب للجان والإدلاء بالرأي، لكن تبين الأمر حين كانت تتم عمليات الملاحقة في الشوارع ويتخذ المواطنون كافة السبل للتهرب من التصويت، رغم تلك الملاحقة والتهديدات الكثيرة التي تعرضوا لها. فالأمر لا يتعلق بتكاسل عن الذهاب، وإنما كان الفعل عمدا، وتحديا للنظام، ورفضا مع الإصرار.
إن النتائج الهزيلة وأرقامها تحمل دلالات كبيرة، وبالتأكيد قد وصلت تلك الدلالات بقياس حجم قبول النظام بالشارع المصري، وما تبقى له من رصيد، إن كان ثمة رصيد متبقيا.. لقد حرق النظام كل السفن من خلفه حين عادي الشعب وعمل على غير مصلحته، وحين وضع نصب عينه مصلحة فرد واحد، فرد لم يراع شرف العسكرية، فقام بملاحقة زملائه وشركائه.. لم يراع الوطنية فتنازل عن أرضه، ولم يراع مصلحة شعبه، فتعهده بالتجويع والإفقار والإمراض والتجهيل والتهجير والحبس، وحتى القتل. إن نسبة الثلاثة في المئة التي خرجت في مجملها مجبرة؛ لا تمثل نسبة قبول النظام حاكما، وإنما تشير الأرقام الحقيقية إلى أن البلاد ليست على شفا ثورة عارمة ستقتلع النظام؛ الذي لم يعد يملك أي فرص للبقاء أو التعديل من سياساته أو إصلاحها، وإنما تنذر ببركان مائج بالعنف لن يكون بحال كالخامس والعشرين من يناير.
إن العالم الذي تحركه المصالح وتحكمه القوة، لن يقف طويلا في موقف المساند لنظام مهدد بغضب شعبي يكاد يكون جماعيا. والخارطة العالمية ليست ثابتة، وإنما هي متغيرة بتغير المصالح حسبما توجهها الشعوب لا الأنظمة. والمصريون اليوم يكادون أن يكونوا مجمعين على توجه واحد؛ توجه قالته نسبة مشاركتهم في تلك المهزلة المسماة بالتعديلات التي تمكن لاستمرار طاغية جديد بدون سقف زمني محدد، ذلك الإجماع وحده القادر على تغيير السياسات الخارجية تجاهنا، وحده القادر على اقتلاع أي مساندة خارجية للنظام المترهل من جذوره، وقد آنت تلك اللحظة الحاسمة وظهرت أماراتها حين هتف الشعب السوداني والشعب الجزائري ضد الأنظمة العربية التي تعضد للاستبداد، وتنفق في سبيل ذلك كل نفيس.
إن مصر التي فقدت سيناء فعليا وفقدت كل أعيادها؛ تحمل في رحمها ثورة لن تقتلع نظاما يحكمها، وإنما تهدد باقتلاع كل ألوان الفساد والظلم في الوطن العربي كله.