كلما اقترب موعد تسلم تركيا منظومة "أس400" الصاروخية الدفاعية من روسيا، والمقرر أن يكون في تموز/ يوليو المقبل، ازدادت الضغوط الأمريكية عليها بشكل ملحوظ. لا تبدو واشنطن واثقة من تأثير "جزرة" بيع صواريخ باتريوت لتركيا، ولذلك فهي تشهر بين الفينة والأخرى "عصا" التهديد بعقوبات اقتصادية واستبعاد أنقرة من مشروع طائرات "إف 35" الذي تعول عليه الأخيرة كثيراً.
سابقاً، وبضغوط أقل من هذه بكثير، ألغت تركيا صفقة مشابهة مع الصين، لكنها لم تقدم أي إشارات على تراجع موقفها بخصوص الصفقة الروسية حتى اللحظة. فهي تدرك أن إلغاء الصفقة الآن وتحت سيف التهديدات الأمريكية؛ لن يخدش سيادتها ويفقدها الصفقة بكل تبعات ذلك المالية والاستراتيجية فحسب، وإنما قد يمتد ليؤثر سلباً على العلاقات مع روسيا، وكذلك على سمعتها في سوق السلاح الذي دخلته مؤخراً كمصدّر، وليس فقط كمستورد.
إلغاء الصفقة الآن وتحت سيف التهديدات الأمريكية؛ لن يخدش سيادتها ويفقدها الصفقة بكل تبعات ذلك المالية والاستراتيجية فحسب، وإنما قد يمتد ليؤثر سلباً على العلاقات مع روسيا، وكذلك على سمعتها في سوق السلاح
وزير الخارجية تشاووش أوغلو والناطق باسم حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك؛ استهجنا بلغة حادة الشائعات التي تحدثت عن إمكانية تراجع الحكومة التركية عن الصفقة. وحين كتب المحرر السياسي لصحيفة "بيلد" الألمانية خبراً عن وقف تركيا الصفقة الروسية، معتمداً على مصادر دبلوماسية، رد عليه رئيس دائرة الاتصالات في الرئاسة التركية فخر الدين ألتون عبر تويتر، قائلاً: "عزيزي جوليان. مصادرك خاطئة. خذها مني: صفقة أس400 اتفاق منتهٍ".
قد يُخيل للمتابع أن تركيا تخاطر بأزمة جديدة مع الولايات المتحدة، بعد أزمة القس برونسون الصيف الماضي، ما يثير مخاوف حقيقية من ردة فعل ترامب، لا سيما أنه هو وإدارته في خضم تصعيد غير مسبوق إزاء إيران في المنطقة، بما يشمل الخطاب التهديدي، ومضاعفة العقوبات والحظر، وإلغاء إعفاء بعض الدول من ذلك، فضلاً عن الحشود العسكرية المتزايدة.
لكن هذا الانطباع، بأن تركيا لا تأبه للتهديدات الأمريكية وأنها مصرة على الصفقة الروسية مهما كان الثمن الأمريكي، لا يبدو دقيقاً. استفادت أنقرة من دروس الأزمة السابقة ومتابعة القرارات الصادمة لترامب، ولذلك فقد رأينا ردود فعل أقل حدة منها تجاه واشنطن في الشهور القليلة الأخيرة. وبينما تعلن أن الصفقة الروسية حاجة لها وقرار سيادي لا يجدر بأي طرف التدخل فيه، فضلاً عن أن يملي عليها خياراتها، لا تذهب تركيا بالتصعيد إلى نهاية الشوط، لكنها تبحث عن حلول وسط كما فعلت في بعض الملفات مؤخراً.
الانطباع بأن تركيا لا تأبه للتهديدات الأمريكية وأنها مصرة على الصفقة الروسية مهما كان الثمن الأمريكي، لا يبدو دقيقاً. استفادت أنقرة من دروس الأزمة السابقة ومتابعة القرارات الصادمة لترامب
في الأصل، حاولت أنقرة مراراً إقناع الولايات المتحدة بأن صفقة "أس400" ليست موجهة ضدها أو ضد
حلف الناتو، مبدية استعدادها لشراء صواريخ باتريوت منها كإضافة للمنظومة الروسية، وليس كبديل عنها، لكن ذلك لم يجد نفعاً مع تصلب الموقف الأمريكي.
الآن، تعود تركيا لواشنطن بمقترح أكثر عملية، يقضي بتشكيل لجنة تركية- أطلسية لدراسة الصفقة الروسية من مختلف جوانبها، للتاكد من عدم إضرارها بحلف الناتو وأسلحته الهجومية، خصوصاً طائرات "إف 35". هذا المقترح التركي، الذي جاء على لسان الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين وردده أكثر من مسؤول تركي، والذي لم ترد عليه الولايات المتحدة أو بروكسل بعد بشكل رسمي ونهائي، يعني ضمناً أن أنقرة مستعدة للتعامل بإيجابية مع مخرجات اللجنة، وهو ما يفتح الباب على عدة سيناريوهات بديلة في حال قررت اللجنة أن الصفقة ستضر حتماً بالحلف.
أحد السيناريوهات المطروحة ضمناً في هذا الخيار الأول هو
تأجيل استلام المنظومة من قبل تركيا، إما انتظاراً لانتهاء أعمال اللجنة وإصدار تقييمها، أو بناء على نتائج التقرير المفترض في نهاية عملها حالَ أقر بوجود مخاطر جدية محتملة. لكن خيار التأجيل إلى أمد ما هو سيناريو مطروح كذلك بالنسبة لأنقرة بشكل مستقل وبعيداً حتى عن خيار اللجنة المشتركة. خيار كهذا سيمنح الطرفين، وخصوصاً تركيا، وقتاً لتخفيف حدة الضغوط واستجلاء تطورات الموقف في المنطقة، وربما يتيح المجال لوساطات أو تغير في الموقف الأمريكي، وهو خيار لن يزعج روسيا كثيراً؛ لأنه يبقى تحت سقف إتمام الصفقة ويمكن تسويقه تحت بند أسباب لوجستية أو فنية.
يمكن نظرياً توقع انخفاض حدة الموقف الأمريكي في حال توصل الطرفان (أنقرة وواشنطن) لتوافقات على قضايا أخرى، وفي مقدمتها الأزمة السورية والملف الإيراني،
أحد الخيارات الممكنة، وفق البعض، هو استلام تركيا المنظومة دون تشغيلها وتفعليها، وهو ما يبدو خياراً وسطاً كذلك، بيد أنه من الصعب توقع تجاوب الإدارة الأمريكية سريعاً مع هكذا خيار، لا سيما وأنه يتضمن إتمام الصفقة واستلام أنقرة للسلاح وهو الجزء الأهم من الصفقة، بينما التشغيل/ التفعيل يمكن أن يتأخر لاعتماده على تطورات ما.
كما أنه يمكن نظرياً توقع انخفاض حدة الموقف الأمريكي في حال توصل الطرفان (أنقرة وواشنطن) لتوافقات على قضايا أخرى، وفي مقدمتها الأزمة السورية والملف الإيراني، وهو أمر يبقى احتمالاً قائماً، خصوصاً في ظل تركيز الإدارة الأمريكية على الضغط على طهران.
لكن في كل الأحوال، ثمة حرص تركي على عدم التعرض لعقوبات أمريكية في ظل الأزمة الاقتصادية التي لم تنته بعد، وكذلك في ظلال انتخابات الإعادة لبلدية إسطنبول الكبرى في حزيران/ يونيو المقبل، والتي يوليها العدالة والتنمية أهمية قصوى. ما يعني أن الأيام والأسابيع القادمة قد تشهد تحقق أحد السيناريوهات والحلول البديلة التي قد تساعد تركيا على تجنب أزمة مع الولايات المتحدة، ولو مؤقتاً، دون أن تجبرها على التنازل عن الصفقة الروسية التي تعول عليها كثيراً.