هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يخفي الحراك الشعبي الجزائري، الذي انطلق سلميا منذ حوالي ثلاثة أشهر، من أجل الحرية والديمقراطية ودولة القانون، صراعا هوياتيا خفيا بين مكونات الحراك المختلفة، حتى وإن ظل الهدف المشترك لملايين الجزائريين الذين يملأون الشوارع في معركتهم الموحدة من أجل إسقاط منظومة الحكم الفاسد.
وقد تكشفت أوجه هذا الصراع جليا في نوعية الرايات والشعارات المرفوعة، كما انعكست بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، أين تجري حروب طاحنة بين مكونات الشعب الجزائري، خاصة منذ استقالة الرئيس بوتفليقة، وتولي قيادة الجيش تسيير المرحلة الحالية على الرغم من وجود مسؤولي الضرورة الدستورية على غرار رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح، وهو الصراع الذي اختلفت أبجدياته الكلاسيكية بشكل واضح، حيث انتقل من صراع أيديولوجي (إسلامي / علماني) في التسعينيات، إلى صراع هوياتي حاليا (عربي/ بربري، أمازيغي)، مع تداخل طبيعي للبعد الأيديولوجي أيضا، لنكون أمام معادلة تقريبية لصراع (عربي إسلامي / علماني بربريستي).
وقد انعكس هذا الصراع الذي تخندق فيه من يمكن تسميتهم بـ (العروبيين الجدد) مع قيادة الجيش في دعم خيار الحل الدستوري، مقابل تخندق باقي المكونات الأخرى مع الخيار السياسي، بشكل واضح على الحراك، إلى درجة كانت السبب الرئيسي في عدم قدرة الحراك على إخراج ممثليه للتفاوض مع السلطة القائمة، حيث كلما ظهرت شخصية يتم تخوينها مباشرة واتهامها بشتى النعوت، لكونها لا ترضي البعد الهوياتي لهذه الجهة أو تلك، الأمر الذي زاد في حدة المأزق أو الانسداد الذي تعيشه الجزائر حاليا، ويجعل من المهم تفكيك هذه التشكيلات الهوياتية التي لديها منطلقات فكرية مختلفة تصل أحيانا إلى حد التضاد أو التصادم، إلا أن ما يحسب لها لحد الآن، هو استمرار الجميع في الحفاظ على الحد الأدنى من التوافق، لأنه في النهاية يبقى أن شعبا واحدا، هو الشعب الجزائري الواحد الموحد، رغم اختلافاته الفكرية والثقافية، يسعى من أجل تحقيق هدف واحد، يخدم الجميع في جزائر الجميع.
أصل الصراع
لم تعرف الجزائر صراعا هوياتيا في تاريخها تقريبا، إلا بعد دخول المستعمر الفرنسي بعدة عقود، عندما اكتشف أن أكبر خطر يهدد وجوده في البلاد هو وحدة الشعب الجزائري، وقد اختار هذا الاستعمار بخبث كبير، الاستثمار في التنوع العرقي عبر التركيز على البربر (الأمازيغ) وخاصة منطقة القبائل الكبرى شرق العاصمة الجزائرية، وقد انفجرت ما يسمى بالأزمة البربرية في آذار (مارس) 1949، وظهور ما يسمى بـ "حزب الشعب القبائلي"، في أعقاب الرسالة الشهيرة التي وجهها زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج إلى الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 1948 وتحدث فيها بوضوح عن الهوية العربية الإسلامية للجزائريين التي تحاول فرنسا طمسها.
من الأسباب المباشرة للانقلاب العسكري في كانون ثاني (يناير) 1992، هو الخلفية "الهوياتية" للجنرالات المنقلبين على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ
يؤخذ على البربريست عموما، ميلهم الشديد للثقافة الفرنسية، واستعمال اللغة الفرنسية بديلا عن اللغة العربية
لوحظ أن (العروبيين) في الجزائر مالوا خلال هذا الحراك بشكل واضح، إلى طرح المؤسسة العسكرية،
وقد ناضل أقطاب هذا التيار من المثقفين والمفكرين، لرفع الوصاية الثقافية الفرنسية عن الجزائر، عبر عمليات التعريب التي شهدتها البلاد، وقد برز هذا التيار أيضا في حراك الجزائر بحمل الراية الوطنية دون سواها، التي ضحى من أجلها مليون ونصف مليون شهيد، وسقط من أجل استقلال الجزائر قبل ثورة التحرير ملايين الشهداء حتى تبقى الجزائر أرضا عربية مسلمة.
وقد لوحظ أن (العروبيين) في الجزائر مالوا خلال هذا الحراك بشكل واضح، إلى طرح المؤسسة العسكرية، التي ولأول مرة منذ الاستقلال تشير إلى هويتها النوفمرية (نسبة إلى ثورة نوفمبر التحريرية)، بعد إزاحة ما أسمته هي نفسها بـ "العصابة" السابقة وجنرالات فرنسا، وأعلنت تأييدها لعروبة الجزائر بشكل واضح لا لبس فيه.
ومن بين الشخصيات التي أعلنت دعمها للخيار الدستوري الذي يدعمه الجيش، أسماء بارزة في الساحة الجزائرية عرفت بدفاعها المستميت عن اللغة العربية في مواجهة سياسة الفرنسة الماضية، وذلك من أمثال الدكاترة أحمد بن نعمان، عثمان سعدي، علي بن محمد، محمد بلغيث، الأستاذ الهادي الحسني والدكتور سليم قلالة وغيرهم.
تيار القطط
المفاجأة المدوية التي أبرزها الحراك الجزائري، هو ظهور ما بات يعرف بـ "تيار الوعي" أو "تيار القطط"، نسبة لمنظر هذا التيار (العروبي) الجديد، محمد الوالي رحمه الله، المعروف بـ "الماريشال القط"، الذي ظل قبل سنوات ينشر عبر صفحته في الفيسبوك منشورات مثيرة للجدل، ركز فيها على خطر من يسميهم (الزواف)، وهم فرقة عسكرية من منطقة القبائل الأمازيغ اعتمدت عليهم فرنسا في احتلال كامل الجزائر بعد دخولها الجزائر العاصمة مباشرة سنة 1830، وامتداداتهم حاليا في دواليب الحكم والإدارة والاقتصاد والإعلام وغيرها، ليشكل صدمة معرفية من الطراز العالي، كون الوالي محمد أول من نبه إلى هذا المعطى في تبيان حقيقة الصراع في الجزائر، اعتمادا على بحوث تاريخية ومصادر ثبت مع مرور الوقت أنها كانت غاية في الدقة.
وظهر "تيار القطط" هذا، الذي يعد ردة فعل على عملية العصفور الأزرق الاستخبارية التي أطلقتها فرنسا خلال الثورة التحريرية الجزائرية، للتدليل على اصطياد القطط الوطنية للعصافير الزوافية أو الفرنسية، ليشكل بعد سنوات قصيرة من شروع محمد الوالي في منشوراته، تيارا عروبيا قائما بذاته، يجعل ممن يسميه (الزواف) هدفا رئيسا لاقتلاعهم من إدراة الدولة.
وينشط أنصار هذا الطرح بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى درجة باتوا يشكلون انطباعا أنهم هم الأغلبية، لكنهم يتحركون أيضا على أرض الواقع، وقد رفعوا خلال الحراك شعاراتهم الخاصة، الأمر الذي يجعل منهم تيارا لا يشبه في أدوات عمله وموقفه من الآخر تيار العروبيين التقليدين، وقد يكون له دور مهم في مستقبل الجزائر، خاصة أن هناك من يتحدث عن امتداداته الأفقية حتى داخل الجيش.
حرب الرايات
في الأثناء، ظهر الصراع جليا في حرب الرايات في أثناء فعاليات الحراك، خاصة أيام الجمعة، حيث تخرج الملايين إلى الشارع، في مختلف مناطق الجزائر، وبينما ظلت الراية الوطنية الجزائرية تشكل السواد الأعظم من الرايات المرفوعة، وهي ميراث مشترك بين جميع الوطنيين المؤمنين بالجزائر الدولة والوطن، مع كل ما شكلته من لوحات فنية راقية تثير الغبطة في الأنفس، إلا أن رايات أخرى ظهرت في الأثناء في ما يشبه حربا طاحنة لإثبات الذات والهويات.
الأمازيغ أو جزء كبير منهم، فضل حمل الراية التي يسمونها أمازيغية، التي توجد أيضا في عدد من دول المغرب العربي من ليبيا إلى تونس والمغرب، تعبيرا عن هويتهم الأمازيغية، وقد لوحظ أن أعدادا كبيرة من المواطنين الأمازيغ كانوا يأتون إلى العاصمة في ساعات مبكرة من الصباح من ولايات تيزي وزو وبجاية ذات الأغلبية الأمازيغية القبائلية، حاملين معهم تلك الرايات بغرض حملها قرب ساحة البريد المركزي، حيث تتركز معظم كاميرات القنوات التلفزية المحلية والعالمية، للإيحاء بكثرتهم وسط الحشود، كما يتميز مناضلو القضية الأمازيغية بالتنظيم والفعالية، مقارنة بباقي الجزائريين الآخرين، الذين هم في الغالب لا يهتمون لمثل هذه الأمور، ومع ذلك ظهرت راية أولاد نايل وهي من أكبر القبائل العربية في ولاية الجلفة وسط الجزائر وما حولها من الولايات العربية الأخرى، إلا أن رفع هذه الراية لا يحمل أي مدلولات سياسية لمحدودية انتشارها أولا، وعدم امتلاك أصحابها أي أجندة خاصة كما هم أصحاب الراية الأمازيغية.
أما الذي أحدث الفارق في العملية كلها، فهو هذا الإبداع الجزائري المتفرد، حين تصر الجماهير المنتفضة ضد الديكتاتورية، على حمل الراية الفلسطينية بكثافة في جميع ولايات الجزائر من شرقها إلى غربها، في إعلان واضح أن الشعب زيادة على كونه مع فلسطين "ظالمة أو مظلومة" بتعبير الرئيس الراحل هواري بومدين، فإنه تعبير كبير عن إصرار الجزائريين على لحمتهم العربية وامتدادهم العربي، وهو الأمر الذي بقدر ما يزعج الصهاينة وأذنابهم من "الأعراب"، بقدر ما يزعج أيضا بعض التيارات العلمانية والعرقية المتطرفة من غير العرب، ممن ثبت تعاملهم وولاؤهم لإسرائيل مثل أنصار حركة (الماك) الانفصالية.