تؤدي لفظة "رب" معنى التربية والتعهُّد وضمان مقومات الحياة، ومنها رب البيت وربَّة الأسرة. أما
الرب الخالق (عز وجل) فهو الذي خلق الخلق جميعا واستدعاهم للوجود، ومن ثم شمل عطاء ربوبيته كل أحد وكل مخلوق، ومن هذا العطاء سائر ألوان الرزق الذي يضمن استمرار الحياة وحفظها على المؤمن والكافر، والإنس والجن. ولهذا ارتبط عطاء الربوبية في تنزُّله بالأسباب والنواميس الكونية، التي قدَّرتها المشيئة الإلهيَّة؛ فمن أخذ بأسبابه نال من ورائها ما يُريد ولو كان كافرا.
وأهم تجليات الربوبيَّة، هي رحمة الله الرحمانية المنبثقة من اسمه العزيز: الرحمن؛ فهو رب العالمين وخالقهم جميعا، الذي يرحمهم بحفظ حياتهم بأسباب معينة، ولو أنكروا ألوهيته عز وجل وتمرَّدوا على حاكميَّة هذه الألوهيَّة. فهي رحمة القيوميَّة الربوبيَّة؛ رحمة تكوينيَّة مرجعها كون الخلق جميعا عيال الله، أي عباده المفتقرين إليه وإلى إعالته إياهم، سواء أدركوا ذلك وآمنوا به أم جحدوه ونسوه.
أما
الألوهية، فهي أخص ما اختص الله تعالى به نفسه. إذ معرفتها معرفة تكليف لمن آمن بوحدانيته، وارتضى حاكميته، وخضع لمنهجه سبحانه؛ فاكتمل إسلام وجهه لله بهذا الخضوع. تكليف مقرون بطاعة وعبادة، وكمال امتثال يُرزق العبد العون عليه كما هُدي إليه بإذنه؛ إذ المؤمن المكلَّف هو وحده الذي يتفيَّأ ظلال الألوهية الوارِفة، بما أنه الخاضع طواعية للمنهج، المكابد لنفسه وللكون في سبيل تحقُّق الأمر الإلهي في نفسه أولا، وفي الوجود بالتبعيَّة. وأهم تجليات الألوهيَّة هي رحمة الله الرحيمية، المنبثقة من اسمه العزيز: الرحيم؛ فهي رحمة فوق رحمة لا ينالها إلا المؤمن؛ إذ هي عطاء ارتبط بتكليف معين، وأُعين عليه العبد بهداية وعون وجزاء دنيوي وأخروي.
لكن هذا الفصل بين عطاء الألوهية وعطاء الربوبية، الذي يضمن للكافر والفاسق والفاجر العدل في عطاء الدنيا؛ فصل مؤقت بل لا وجود له في روع المؤمن ابتداء، إذ تتحد الرحمات والألطاف الإلهيَّة، وتتكاثف في تنزُّلها على العبد، مع تنامي إخلاصه وترقّيه في السلوك؛ بتمام خضوعه لله وصدق امتثاله لأوامره. بل إنهما يرتبطان آنئذ كُليّا في تنزُّلهما على الصالحين ممن استخلصهم الله لنفسه، وفي كل تنزل لهما على أفئدة من أحب من عباده ورضي له الهدى؛ لدرجة أن المؤمن البصير قد يجِد في انفصال عطاء الألوهية وعطاء الربوبية مكرا من الله أو نقمة أو غضبا، نعوذ به سبحانه منهم؛ إذ لا تُيسَّر أسباب المعصية بعد
الطاعة إلا تربُّصا ومكرا، أو غضبا ونقمة والعياذ بالله.
كذا يتجلى حب الله لعبده الطائع، وحب الهدى له؛ في كمال ارتباط نِعَم الربوبية بنعيم الألوهية، إذ قد تُحجَب نعم الربوبية ويجف معينها عن العاصي الذي أحب الله له الهدى ورضي له الخير، علَّه يعود إلى رحاب ربه تائبا مُنيبا. وها هنا يصير ارتباط عطاء الألوهية وعطاء الربوبية من نعم الله على عباده المؤمنين؛ فهو كالإنذار والتنبيه لمن غفل واثاقل إلى الأرض، واستجاب لهوى النفس وانجرف وراء ضعفها؛ إذ كلما غفلت نفسه، سُدَّت أبواب الدنيا في وجهه، واسود أفقها، وضاق صدره كأنما يصعَّد في السماء. فمثل هذا قد يكون ربنا العلي قد نظر إليه ورضي هُداه. ذلك أن ارتباط عطاء الألوهية وعطاء الربوبية عند المؤمن علامة مهمة على حب الرب الإله لعبده، ورحمته به؛ رحمة اختص بها من آمن، ورحمة على رحمة يُختص بها من رضي الله بإيمانه وأحب طاعته، ليمنعه من الانصراف عنه. نسأل الله أن يكتبنا منهم.