هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ أكثر من سبعين عاما (من قرار التقسيم وإلى اليوم)، والشعب الفلسطيني يقاوم الاحتلال؛ سعيا وراء استعادة أرضه وحقوقه والتحرر، والعيش في دولة مستقلة.
ولقد تنوعت أشكال المقاومة من حيث التنظيم الهيكلي والإداري؛ من مقاومة فردية إلى مقاومة مجموعة، إلى مقاومة على مستوى مناطق في فلسطين، إلى أن ظهرت الفصائل الفلسطينية المعروفة في تاريخ المقاومة الفلسطينية. وكما هو معروف، فإن من أوائل الفصائل الفلسطينية المقاومة كانت حركة فتح، تلتها الجبهة الشعبية وفصائل أخرى عديدة، وانتهت بظهور حركة حماس. ولقد تنوعت الفصائل، وتعددت بتنوع الأيديولوجية أو الداعمين لها، وعوامل أخرى ليست محل النقاش في هذه المقالة.
لكن جميع هذه الفصائل ظلت فصائل مقاومة، وإن تحول بعضها إلى العمل السياسي، والدخول في تسويات مع الكيان الإسرائيلي. ولكن أيا من هذه الفصائل، وإن ادّعت غير ذلك، لم تستطع أن ترتقي لتصل لمستوى حركة تحرير وطني، بل ظلت تحوم في داخل إطارها الفكري أو الأيديولوجي أو السياسي، ولم تستطع القفز بنفسها عن هذه الأطر لتتحول لحركة تحرير وطني.
حاولت حركة فتح في البداية أن تكون كذلك، وانطلقت ضمن طرح فكري مرن، يحاول أن يجمع الجميع من مختلف التوجهات. لكن سرعان ما اتجهت نحو الفصائلية والعقلية الحزبية والانغلاق على النفس، سواء بسبب منافسة الآخرين من الفصائل، أو الغرور الناتج عن كونها أكبر فصيل في وقتها، وأطلقت أنشودتها القديمة "أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها"، وبالتالي أغلقت الأبواب على الآخر ليس فقط بالأنشودة. ولكن في الواقع العملي؛ من حيث الهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية وأموال المتبرعين والقرار الفلسطيني. وحاول ياسر عرفات أن يظهر بغير ذلك، خصوصا في إطار منظمة التحرير، ولكن ظل القرار الفلسطيني مرهون بحركة فتح عامة، وبياسر عرفات خاصة. كما حاول البعض إظهار فتح على أنها حركة تحرر وطني مرة أخرى، إبان اتفاقية أوسلو وما بعدها باعتبارها كانت تقود المفاوضات، إلا أنها سرعان ما انغلقت على نفسها؛ على شكل حزب السلطة الذي استبد بالسلطة وأجهزتها الأمنية والإعلامية والمالية.
لقد كانت حركة فتح مؤهلة لأن تطور حركة تحرر وطني حقيقية في تاريخ النضال الفلسطيني، إلا أنها لم تستطع ذلك، بل حولت نفسها بعد أفول عنفوانها النضالي، وبعد أن فقدت الزخم الوطني نتيجة تبنيها لاتفاقية أوسلو (التي يرفضه عدد كبير من المكون الفلسطيني)، لحزب سلطة سياسي.
ثم جاءت حركة حماس متبنية المقاومة، واستطاعت أن تنمو سريعا، وكانت لها قفزات على منحنى دورة حياتها النضالية، وخصوصا في مواجهتها للحروب الإسرائيلية على قطاع غزة مما وضعها في موضع استراتيجي متقدم جدا عن إمكاناتها وقدراتها المادية والمالية الحقيقية. ثم ونتيجة للصراع الفلسطيني الداخلي، حسمت حماس الأمر في قطاع غزة، وسيطرت على إدارته، الأمر الذي وضعها في موضع صعب، خصوصا بعد رفض القوى الدولية نتيجة الانتخابات التي فازت فيها حماس، وسيطرتها بعد ذلك على القطاع، ففُرض عليها حصار منذ أكثر من 12 عاما.
وبالتالي، تكون حماس قد ابتلعت لقمة أكبر بكثير من إمكاناتها، وأصبحت في وضع لا يؤهلها لأن تتطور لحركة تحرر وطني، لا من حيث القدرة ولا من حيث المرونة الفكرية في استيعاب الآخر، في ظل بيئة إقليمية ودولية هي لعداوة حماس والإسلام السياسي أكثر منها للمودة.
وبالتالي، فإن أكبر حركتين أو فصيلين فلسطينيين، وهما حركتا فتح وحماس، عجزتا عن التحول لحركة تحرر وطني فلسطيني.
إنّ طرح مفهوم حركة تحرر وطني يتطلب التعرف على الفروقات بين حركة التحرر وبين الحزب (الفصيل). فحركة التحرر الوطني تسعى لتحرير الأرض من الاحتلال، وحركة التحرر الوطنية ذات أفق وطرح فكري واسع؛ قائم على مقصد التحرير والاستقلال، وقادر على تفهم الجميع، ومستوعب لكل الطاقات والكفاءات، بغض النظر عن خلفيتها الفكرية أو الدينية. أي أن حركة التحرر الوطني لا تقوم على عقيدة حزبية أو فكر أو مذهب واحد.
وهذا لا يعني ذوبان الهوية أبدا، فحركة التحرير الوطني تستطيع أن تحافظ على هوية المجتمع الذي تعمل فيه، سواء العربية والإسلامية، إن كانت تعمل في وطن عربي مسلم. ولكن عليها أن تستوعب الجميع الموجود والمنتمي للوطن، سواء من غير المسلمين، أو من قومية أخرى، أو من مذهب آخر، أو من نهج فكري مختلف. فحركة التحرر الوطني تضم الجميع ضمن هوية المجتمع، حيث لا يوجد مجتمع بلا هوية.
وحركة التحرير الوطني لها إطار وطني واسع بقيادة مشتركة، حتى ولو كان أحد مكوناتها هو قطب رئيسي وأكبر حجما أو قدرة من غيره. وهذه القيادة المشتركة هي التي تتخذ القرارات الاستراتيجية.
كما أن حركة التحرر الوطني تملك الكتلة الحرجة القادرة على إحداث الأفعال وتنزيل الحقائق على الأرض، ولكن بالتأكيد فإن جزءا من هذه الكتلة يأتي من غير القطب الرئيسي. وتصوغ حركة التحرير الوطني خطابا سياسيا مبنيا على هذه المفاهيم، وتتعامل سياسيا مع كل الموجود في بيئتها الداخلية بغض النظر عن حجمه، كما أنها تتعامل مع مؤسسات المجتمع المدني دون أن تستبعد من لا يتفق معها.
وعند التحرير والاستقلال، فإن حركة التحرير الوطني ممكن أن تتحول لحزب سياسي تنافس على حكم الوطن، وإن كان الأولى لها أن تُنهي حياتها بانتصار التحرير والاستقلال، وتترك مجال التنافس السياسي لتشكيلات جديدة تنبثق منها أو من غيرها باتجاه التحول إلى نظام سياسي.
أما الحزب، فهو مجموعة تؤمن بفكر ما، أو تتبنى أهدافا سياسية أو أيديولوجية أو دينية أو اقتصادية، أو فكرا مركبا من تلك الأهداف السابقة، وينتظمون في إطار تنظيمي بهدف الوصول إلى السلطة.
ويسعى الحزب لتشكيل قاعدة حزبية مؤمنة بالفكرة، ويعمل على نشرها ليشكل قاعدة جماهيرية تؤهله لدخول المعترك السياسي للوصول للحكم. وعادة ما يعتمد الحزب السياسي على هيكلية هرميّة ضمن سلطة تنظيمية تتمسك بالتراتيب الهيكلية. والتعيين في المواقع يكون للحزبي الملتزم أكثر منه لصاحب الكفاءة، كما تسود العقلية الحزبية (الفصائلية) المنغلقة التي لا تستوعب الآخر.
ومن الملفت أن الفصائل الفلسطينية جميعها، دون استثناء، طرحت مبدأ المقاومة والتحرير، ولكن بمفهوم حزبي، فتقمصت تعريف الحزب من حيث الهدف والهيكلية والتعصب والولاء، فمنعها ذلك من أن تشكل فيما بينها كيانا يجمعها في حركة تحرر وطنية حقيقية.
كما لم تنجح فكرة منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت نقطة انطلاق معتبرة لتحقيق فكرة حركة التحرير الوطنية، إلا أنها لم تستطع تحقيق ذلك لأسباب عديدة. وللأسف، فإن كل من حركتي وفتح وحماس تحولتا لأحزاب سياسية، ونجحتا في الوصول لسدة حكم الضفة الغربية وغزة تحت ظل الاحتلال. صحيح أن حماس حركة مقاومة تتمسك بالسلاح، إلا أنها في نهاية المطاف تحولت لحزب سياسي ينافس على السلطة والحكم، ظانة أنها يمكن أن تجمع بين الحكم والمقاومة تحت سقف الاحتلال.
صحيح أن الوضع الفلسطيني معقد، خصوصا أن القوى العالمية هي التي ساهمت في خلق الكيان الإسرائيلي ودعمته منذ وعد بلفور وحتى اللحظة، كما أن الانقسام العربي غير المسبوق يشكل عقبة كأداء، ويولد حالة من عدم التوازن العربي الإقليمي.
لكن وفي ظل صفقة القرن، وما يعلن عنها وما يُخفى منها، نتساءل: هل تستطيع إحدى الحركتين أن تطأ على جراحها وتستغني عن بعض ما تظن أنها امتيازات لها، لتشكل وتطور حركة تحرر وطني فلسطيني؟ أم هل من الممكن أن يتم نبذ الانقسام لتطوّر كلتاهما حركة تحرر وطني فلسطيني؟ أم هل من الممكن أن يطور الشعب الفلسطيني بنفسه بعيدا عن الحركتين حركة تحرر وطني فلسطيني، فتكون حركة التحرر الفلسطيني المرتقبة هذه في جميع الحالات منعطفا كبيرا في تاريخ النضال الفلسطيني؟