هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تناولنا في مقالاتنا السابقة، ما زعم بأنه آية نزلت في القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وهي ما سميت بآية الرجم. ورددنا على هذه الفرضية، وناقشناها من حيث سندها ومتنها، ثم بحثنا في مروياتنا الإسلامية، فوجدنا نصوصا تفيد بأن آية الرجم التي رجم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين الذين زنيا، وردت بعض النصوص بها، تتوافق تماما مع عبارات ما قيل إنها آية الرجم في الإسلام، وهي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة".
وكنت سأناقش ما زعم بأن في القرآن ما يسمى بمنسوخ التلاوة، ولكنا نرجئ الحديث عنه لمقال لاحق إن شاء الله؛ لأن نقاشنا عن آية الرجم التي في التوراة، وما ذهب إليه ابن رشد رحمه الله، أنه ربما ما ظنه عمر بن الخطاب قرآنا، هو وحي، وكان عمر كثير الاطلاع على ما عند اليهود من صحف. هذا النقاش جعلنا نقف وقفة مهمة هنا، لننظر إلى الشريعة اليهودية في موقفها من الزنى، وحديث التوراة عن الرجم بالحجارة كعقوبة، وهل هي خاصة بالزنى فقط أم هي عقوبة لمخالفات أخرى؟
عقوبة الزنى في التوراة:
المتأمل في نصوص التوراة، في نظرتها لعقوبة الزنى بين الرجال والنساء، أو بين الرجال معا، أو بين الإنسان والبهيمة، أو زنى المحارم، أو الزنى أو الزواج بزوجة الأب، سيجدها متطابقة تماما مع نصوص العقوبة في السنة النبوية المطهرة، على رأي من يقول بهذه العقوبات، ومن يصحح هذه الأحاديث.
فتقول التوراة عن عقوبة الزنى للرجل أو المرأة: "إذا اتخذ رجل امرأة، وحين دخل عليها أبغضها، ونسب إليها أسباب كلام، وأشاع عنها اسما رديا، وقال: هذه المرأة اتخذتها ولما دنوت منها لم أجد لها عذرة، يأخذ الفتاة أبوها وأمها ويخرجان علامة عذرتها إلى شيوخ المدينة إلى الباب، ويقول أبو الفتاة للشيوخ: أعطيت هذا الرجل ابنتي زوجة فأبغضها وها هو قد جعل أسباب كلام قائلا: لم أجد لبنتك عذرة، وهذه علامة عذرة ابنتي. ويبسطان الثوب أمام شيوخ المدينة فيأخذ شيوخ تلك المدينة الرجل ويؤدبونه ويغرمونه بمئة من الفضة، ويعطونها لأبي الفتاة، لأنه أشاع اسما رديا عن عذراء من إسرائيل. فتكون له زوجة لا يقدر أن يطلقها كل أيامه.
ولكن إن كان هذا الأمر صحيحا، لم توجد عذرة للفتاة، يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها، ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت، لأنها عملت قباحة في إسرائيل بزناها في بيت أبيها. فتنزع الشر من وسطك.
إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل، يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة، والمرأة. فتنزع الشر من إسرائيل.
الرجم عقوبة للعذراء الزانية:
إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا. الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه. فتنزع الشر من وسطك.
ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها، يموت الرجل الذي اضطجع معها وحده. وأما الفتاة فلا تفعل بها شيئا. ليس على الفتاة خطية للموت، بل كما يقوم رجل على صاحبه ويقتله قتلا. هكذا هذا الأمر إنه في الحقل وجدها، فصرخت الفتاة المخطوبة فلم يكن من يخلصها.
إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة، فأمسكها واضطجع معها، فوجدا، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضة، وتكون هي له زوجة من أجل أنه قد أذلها. لا يقدر أن يطلقها كل أيامه" (سفر التثنية: أصحاح 22: 13-29).
عقوبة زنى المحارم واللواط والبهائم:
وتقول التوراة عن عقوبة الزنى بالمحارم، أو النكاح بهن، والزنى بالرجال، أو بالبهائم:
"وإذا زنى رجل مع امرأة، فإذا زنى مع امرأة قريبه فإنه يقتل الزاني والزانية.
وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه إنهما يقتلان كلاهما دمهما عليهما.
وإذا اضطجع رجل مع كنته فإنهما يقتلان كلاهما قد فعلا فاحشة دمهما عليهما.
وإذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة فقد فعلا كلاهما رجسا إنهما يقتلان دمهما عليهما.
وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة بالنار يحرقونه وإياهما لكي لا يكون رذيلة بينكم.
وإذا جعل رجل مضجعه مع بهيمة فإنه يقتل والبهيمة تميتونها. وإذا اقتربت امرأة إلى بهيمة لنزائها تميت المرأة والبهيمة إنهما يقتلان دمهما عليهما" (سفر اللاويين: 20: 10-16).
ويقول: "واذا تدنست ابنة كاهن بالزنى فقد دنست اباها بالنار تحرق" (سفر اللاويين الأصحاح: 21: 9) (1).
الرجم بالحجارة عقوبة على عدد من الجرائم:
وقد ورد في التوراة الرجم بالحجارة على عدد غير قليل من الجرائم، مثل: التجديف على الله (اللاويين 16:24)، وعبادة الأصنام (التثنية 10:13) والقيام بأي عمل يوم السبت (العدد 35:15) والتمرد على الأبوين (التثنية 21:21) مصاحبة الجان والتوابع (اللاويين: 27:20) والغلول في الحرب (يشوع 25:7).. وكانت عقوبة الرجم أيضا تنفذ في الحيوانات، ويبدأ الذين شهدوا بالرجم ثم الآخرون(2).
عقوبة الرجم بين الإسلام واليهودية:
إن نظرة سريعة لعقوبة الرجم في التوراة، سنكتشف أن الرجم عقوبة يهودية بامتياز، فقد توسع التشريع في التوراة في قضية الرجم كما رأينا، ولا نجد الرجم في الإسلام إلا في حالة واحدة هي رجم الزاني المحصن، رجلا كان أو امرأة، وتتوافق عقوبة التوراة في بعض الأحكام الأخرى مع ما ورد في السنة، مثل زنى المحارم، أو الزواج بالمحارم، أو إتيان البهائم، أو اللواط. فالعقوبة التي وردت تتقارب من عقوبة التوراة، ولا يوجد في القرآن أي إشارة من قريب أو بعيد للرجم عقوبة على أي من الجرائم. وهذا ما جعل فقيها كبيرا كالعلامة محمد أبو زهرة؛ يجزم بأن الرجم شريعة يهودية وليست من الإسلام(3)، مع ملاحظة أن ما ورد في السنة في هذه العقوبات موضع نقاش وخلاف كبير بين الفقهاء منهم من حكم به، ومنهم من ضعّف أحاديث العقوبة، وجعلها تعزيرا فقط، وهو ما سنفصله عند الحديث عن هذه العقوبات في موضعها إن شاء الله.
هذا الحديث عن الرجم في اليهودية، وهو ما يعتبر تشريعا في المسيحية كذلك. فالإنجيل لم يأت بتشريع، واعتبر ما ورد في التوراة هو تشريع للمسيحية، مع تفاصيل في الموضوع ليس موضعها هنا. هذا الحديث الذي سقناه في مقالنا عن العقوبة في التوراة، يجعلنا نتساءل: هل طبقها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في بادئ التشريع من باب: شرع من قبلنا شرع لنا؟ ثم بعد ذلك نسخت هذه العقوبة، إلى أن استقرت العقوبة بآية سورة النور، وهي الجلد للزناة فقط، أيا كانت حالتهم.
وهو ما يطرح سؤالا آخر أصوليا مهما وهو: هل النسخ في الشريعة الإسلامية (عند من يقول بالنسخ) ينسخ للأخف أم للأشد؟ بناء على قول من قال: إن آيات سورة النساء كانت في اللواط والسحاق، وآية سورة النور كانت في زنا الرجال بالنساء؟ فكما نسخ الإسلام كل عقوبات الرجم التي في اليهودية، واستخدم في بدايته الرجم في زنا المحصنين، فهل تخلص من هذه العقوبة تماما أم لا بناء على هذه القضية في النسخ: ينسخ للأخف أم الأشد؟
أعتقد أن الحوار والنقاش حول الرجم لا يكتمل الحديث عنه بدون الإجابة عن هذه الأسئلة بتفصيل، ليعلم من يتعرض للحديث عن عقوبة الرجم أنها قضية شائكة في كل تفاصيلها، وليس كما يزعم من يتناولونها بأنها قضية منتهية، وأن النقاش فيها حسم قديما وانتهى. وما نطرحه في هذه المقالات (بل في كل مقال منها) يجعل النقاش والمراجعات فيها أمرا ملحا ولازما، وهو ما نكمل فيه الحديث إن شاء الله.
__________
الهوامش:
1- يوجد ترجمات عربية مختلفة للكتاب المقدس، وقد يجد القارئ بعض الاختلاف بين المصدر الذي ننقل عنه، والمصادر الأخرى، والخلاف في الصيغة وليس في المضمون.
2- انظر: المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم للدكتور محمد علي البار، ص: 339، 338.
3- انظر: ابن القرية والكتاب للدكتور يوسف القرضاوي الجزء الثالث ص: 255.
[email protected]