كتبت مقال المرة السابقة عن كشف المستور، وضمن سياسات الفضح المذاع والمنشور، حول حالة برزت بعد
جملة من فيديوهات قرر أحد
المقاولين المتعاونين مع قيادات البيزنس في المؤسسة العسكرية أن يفضح ويكشف بها ستر كثير من المعلومات التي تخصه شخصيا، من خلال طبيعة علاقته بأعمال معهم وتنفيذ أعمال مقاولات وبناء تخصهم.
بدأ الموضوع من مقطع فيديو لشخص يتحدث عن مشكلات واجهته في استرداد حقوقه في
مشاريع قام بتنفيذها لصالح المؤسسة العسكرية، وعلى وجه الخصوص الهيئة الهندسية في وزارة الدفاع، لكن الأمر لم يتوقف عند مستحقات متأخرة أو أن الهيئة الهندسية تنكرها؛ بل هي مشاريع قامت بها الهيئة الهندسية التابعة للجيش لصالح شخص
السيسي وعائلته وزوجته. ومن هنا بدأت القصة، فالسيسي يخرج كل مؤتمر وكل حين ويقول للعامة: "صبح على
مصر بجنيه"، "أنا عايز الفكة"، "احنا فقرا أوي أوي"، "اصبروا عليا ست شهور"، "اصبروا عليا سنتين"، "احنا شرفاء أوي"، "أنتوا نور عنينا"، "معيش"، "مش قادر أديك"، "هتدفع يعني هتدفع".. وغيرها من المقولات المشهورة التي أطلقها السيسي لمخاطبة الشعب، وكانت خليطا بين العبارات المعسولة وتبرير عمليات الغلاء وارتفاع الأسعار غير المعقولة، وحالة الإفقار التي طالت طبقات جديدة.
وكانت قطاعات من المجتمع تصدق مثل هكذا خطاب، وأن البلاد تعاني من ضائقة مالية شديدة،وعلينا نحن كمصريين أن نصبر لأننا نحارب الإرهاب.
وعلى الرغم من خروج
المستشار هشام جنينة وتحدثه عن إهدار في المال العام، ضمن عمليات فساد كشفها الجهاز المركزي للمحاسبات المنوط به هذا العمل الرقابي؛ يقدر بـ600 مليار جنيه، لم يتحرك أحد أو يتفاعل بالشكل المطلوب مع مثل هكذا تصريحات أو معلومات. وعلى الرغم من تداول معلومات حول طائرات الرئاسة في فترة سابقة، إلا أن الأمر بقي يُتداول عند المعارضة في الخارج، بالرغم من خروج بعض المعلومات الموثقة عن ذلك.. هنا عند محمد علي كان هناك الجديد، وهو المعلومات الموثقة عن السيسي وبعض عائلته، وهو ما أثار حفيظة عامة المصريين، وعلى وجه الخصوص القطاعات المؤيدة للسيسي.
وزاد من تفاعل وانتشار الأمر بين جميع المصريين أن الهدر هنا ليس في سجادة حمراء مفروشة للسيسي لافتتاح مشروع هنا أو هناك، بل هي مشاريع بملايين ومليارات لصالح شخصه.. مشاريع لا تحتاجها الدولة في ظل وجود أكثر من 70 منشأة للرئاسة، من استراحات وقصور.. والأمر لا يدار بالشكل الذي صوّره السيسي للشعب، بل هو يدار على شكل عصابة بما تعنيه الكلمة من معنى.. قصر يفوق تكلفته الملايين، وتعديلات جاءت من زوجته بالملايين دون أي اعتبار للشعب واحتياجاته، فالتقشف لا يظهر إلا عند حاجات الناس وتعليم الناس وصحة الناس، فحتى المشروعات التعليمية التي تغنى بها السيسي في مؤتمراته؛ ما كانت إلا كذبة كبيرة، وما هي إلا استخدام صورة في مؤتمر من مؤتمراته مستغلا اسم زويل.
بدأ هذا الكلام في الانتشار بين العامة، وأخذ
الجميع يتساءل عن صحة وصدق مثل هكذا معلومات، حتى خرج والد محمد علي في حلقة مع أحمد موسى مؤكدا صحة ما يقول؛ عدا أن محمد علي ليس له مستحقات عند الجيش. ومن هنا بدأ كلام محمد علي يأخذ مصداقية، فحتى الإدارة الأمنية للإعلام تعاملت مع الأمر بشكل سطحي لا ينم عن إدراك لما تمثله مثل هكذا معلومات، بالرغم من قوة النظام في مصر وبسط سيطرته على جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها، وارهاب الناس سواء بالقتل أو الاعتقال أو التصفية أو الاختفاء القسري أو مصادرة الأموال، وغير ذلك من أساليب العصابات تحت غايات ومسوغات لم يعد يقتنع بها الناس..
نرى أن النظام وقف عاجزا عن مواجهة هذه المقاطع، فقام بمحاولة حذفها، وهو ما أعطى لها انتشارا أوسع وتداولا أكثر، وأصبح الأمر حديث عامة الناس وعن حياة السيسي في قصوره وزوجته وأولاده.. فهنا لا يوجد إرهاب أو لا يوجد انتماء؛ بل هو شخص عمل وتربح من الجيش طيلة 15 عاما، فلا يوجد ما يقدمه الإعلام للرأي العام. وغالبا ما تكون البدايات صغيرة ولا تعطى لها أهمية أو قيمة.
وهنا نود أن نشير إلى أمر غاية في الأهمية؛ هو أن النظام فقد قدرته على تقديم خطاب مقنع للشارع، والسيسي في كل مرة يخرج في الإعلام سيكون الأمر ضده وضد شعبيته؛ بل إن الأمر يمتد لداخل النظام والمؤسسة العسكرية والمحسوبين عليها. فمنذ أن اعتزم سامي عنان وأحمد شفيق وأحمد قنصوة، وهم ثلاثة عسكريين من مستويات وخلفيات مختلفة وعاصروا فترات زمنية مختلفة، الترشح للرئاسة، نستطيع الحديث عن مؤشرات عن عزم قطاعات داخل النظام على تغيير السيسي؛ لما يقوم به من سياسات تضر مصالحهم أو مصالح الشعب، فمحمد علي ليس إلا أحد هؤلاء الذين تضرروا من أسلوب إدارة السيسي.
ولكنه في واقع الأمر، مع مرور الأيام وتوالي مقاطع الفيديو، استطاع محمد علي أن يصنع حالة بين عموم الناس بطريقة خطابه العفوية، ومحتوى هذا الخطاب الذي يمس معاش الناس وحياتهم. فقد استقرت جهة خطابه
للتركيز على السيسي الذي قاد عصابة لاختطاف الوطن، ومن ثم تمددت مساحات خطابه إلى وقائع فساد متعينة ترتبط بالسيسي وأسرته من جانب، وأهل حظوته وزبانيته من قيادات جيش البيزنس، والذين كوّنوا شبكة من المصالح والتحالفات امتدت لقطاعات اقتصادية تحت مظلة واسعة من التستر والبلطجة في إدارة هذه العمليات الإنشائية؛ التي لم تكن في واقع الأمر إلا مؤشرا على فساد هؤلاء الذين تحكموا في البلاد والعباد، معتمدين على غطاء القوة وما يمثلونه من نفوذ، من جانب آخر.
بدا هذا الخطاب يستهدف الصورة الذهنية لهؤلاء الذين مثلوا غطرسة القوة وهم يمارسون أعمال فساد. ومع خطاب الفضح والسخرية الذي مارسه المقاول- الفنان محمد علي؛ بات كل ذلك مادة شبه يومية ينتظرها الناس ويتلقفونها بالمشاهدة والتفاعل، بحيث لا يمكن تجاهل هذه الحالة.
لن تكون تلك الحالة هي نهاية المطاف؛ بل كانت بحق بداية لحالة اهتمام من فئات اعتادت على التجاهل واللامبالاة. الأمر امتد ليكون حالة اهتمام استطاع نظام السيسي أن يقتلها ويئدها مع سبق إصرار وترصد، حتى استطاع هذا النظام أن يتباهى في عناوين صحفه بإحباط خلية الأمل، في إشارة الى قضية مفتعلة عن اجتماع كان يقوم به البعض لتنظيم دخولهم الانتخابات البرلمانية القادمة، أو إعلان من النظام عن تشييده مزيد من السجون؛ وسمى أحدها عن عمد "سجن المستقبل"؛ وكأن نظام التخويف والترويع والإفقار والتجويع قد أحكم حلقته الجهنمية على هذا الشعب ليرضى بحال القطيع، وتمكين نهج علاقة بين الأسياد والعبيد، فكان كشف المستور وافتضاح أمر فساد النظام، وتجاوب عموم الناس أمر نوعيا، يحرك الراكد ويغير الحالة الجماعية من اللامبالاة الى الاهتمام؛ فكانت تلك البدايات التي تبدو صغيرة يبدو لها في الأفق آثارا كبيرة.. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.