هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يغلب على الاجتهاد الفقهي الإسلامي في تعاطيه مع المستجدات المعاصرة جنوحه إلى الحظر والتحريم، إعمالا لقاعدة "سد الذرائع"، لكنه بعد أن تنتشر تلك المستجدات وتشيع في المجتمعات، سرعان ما يتخلى عن فتاوى التحريم لتحل محلها فتاوى الإباحة، كما حدث في عشرات القضايا، كالتصوير والظهور على شاشات الفضائيات بحسب مراقبين.
في مقابلة ذلك السلوك الفقهي تُثار أسئلة حول أسباب غياب الاجتهاد الاستباقي أو الاستشرافي الذي يُعنى بدراسة تلك المستجدات، والتعاطي معها باعتبارها حوادث واقعة لا مفر منه، فيُصار إلى إصدار الفتاوى بناء على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وليس انطلاقا من المنع والحظر خوفا من أن تفضي إلى الوقوع في الحرام.
ويُرجع باحثون أسباب جنوح السلوك الإفتائي عند عامة مؤسسات الفتوى ورجالاتها إلى تغليب جانب التحريم والحظر لاستصعابه ممارسة الاجتهاد في قضايا لم يسبق إليها من قبل، ولا توجد لها اجتهادات وفتاوى مماثلة في المراجع الفقهية المقررة عند المذاهب الفقهية المعروفة.
ووفقا للأكاديمي الشرعي السعودي، الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي فإن "واقع حال الإفتاء حيال المستجدات المعاصرة ليس بهذا الاطراد الذي غالبا ما يصوره على أنه يجنح إلى تحريمها وحظرها، فثمة مستجدات كثيرة كانت الفتوى من بداية الأمر إباحتها وإجازتها".
وقال الغامدي لـ"عربي21": "لكن من جانب آخر هناك علماء بلاد ومذاهب عندما يفاجأون بما لم يعهدوا يفتون بالمنع أو التوقف، والسبب في ذلك أن الأمور الحادثة غير متجلية لهم من حيث الحل والحرمة، فيتنازعها عند المفتي عدة جوانب، فيذهب حينها للاحتياط إبراء للذمة".
وأضاف: "ومن تتبع المستجدات وجد حتى أكثر المذاهب مرونة كالحنفية يذهبون أحيانا للتحريم احتياطا كالمطعبة والقهوة، في حين أن علماء من الجمهور قالوا بالجواز".
وتابع: "فهذا الأمر مُناط بمدى ظهور الأمر المستجد، ومدى علم المفتي وديانته، فإذا بذل جهده فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، ولن يعدم من يرد عليه ويبين له خطأه".
وتعليقا على من يُرجع جنوح المفتين لتحريم كثير من المستجدات إلى استصعابهم لعملية الاجتهاد بما تتطلبه من دراسة متأنية، وصبر في استيعاب المستجدات على وجهها الحقيقي، أجاب الغامدي: "ليس الأمر على إطلاقه، وإن وُجد من البعض فلا يوجد عند الجميع، خاصة المجامع الفقهية وأهل العلم الراسخين".
وأردف: "فكم سمعت من عالم تُعرض عليه النازلة فيطلب من يعينه من أهل الاختصاص المالي أو الطبي أو غيرها ليفهمها على وجهها، وهناك بالتأكيد أناس قد ينسبون إلى العلم يتشددون أو يتساهلون بحسب الأوضاع التي يعيشونها وهؤلاء لا اعتداد بهم"، على حد قوله.
من جهته قال التربوي الأردني، المهتم بقضايا النهضة والتغيير، إياد شتيوي: "لا بد ابتداء من توصيف حالة الأمة بمجموعها والتي باتت باختصار أمة مستهلكة لعالمي الأفكار والمادة، بل باتت السلعة المستوردة متضمنة للحالة الفكرية للدولة المنتجة، فأصبحت السلعة والفكرة كأنهما وجهان لعملة واحدة".
واستطرد قائلا: "ونظرا لما تشكله هذه الحالة من خطر على دين الأمة باعتباره الحصن الحصين، فإن المؤسسة الدينية المعبرة عن الأمة تقف من المنتجات الفكرية والمادية موقف المحرم تأسيسا على قاعدة الحذر والأخذ بالأحوط، باعتبارها قادمة من أعداء الأمة الذين يتربصون بها الدوائر، ويسعون لزلزلة التدين، مما يدفعها حفاظا على سلامة هذا التدين الهش إلى حظرها وتحريمها".
ورأى شتيوي في حديثه لـ"عربي21" أن "غالب المؤسسات الدينية تمارس دور الأب المتسلط الذي يرى أنه كلما اتسعت دائرة المحظور، زادت نسبة الأمان وبالتالي فإن ذلك أدعى للحفاظ على أسرته، وهذا ما تفعله هذه المؤسسات، وهي بذلك تكون صورة عن الأنظمة التي لا تريدنا أن نرى إلا ما تراه حرصا على المصلحة في الدين والدنيا".
بدوره رأى أستاذ الفقه الإسلامي، رئيس لجنة الفتوى في ألمانيا، الدكتور خالد حنفي "أننا إذا ما أردنا أن نبلغ درجة الاجتهاد الاستباقي أو الاستشرافي فلا بد من تغيير مناهج وأساليب الدراسة في مؤسسات ومعاهد التعليم الشرعي، وكذلك المجامع الفقهية ومؤسسات الاجتهاد الجماعي، وأيضا نوعية الدارسين ومستواهم العقلي والفكري".
ولفت إلى أن مما يعيق الاجتهاد الاستشرافي "نظرة القداسة للتراث الفقهي، وغياب القراءة النقدية له، واعتبار أن هذا التراث حوى أجوبة لما وقع وسيقع، وأن غاية ما سيحصله فقيه اليوم فهم واستيعاب ما تركه السابقون"، مضيفا "كذلك عدم وجود البيئة الثقافية العامة الحاضنة للاجتهاد الاستشرافي، وخوف الفقيه من تلقي اجتهاده بالقدح في علمه ودينه".
واستذكر حنفي في حديثه لـ"عربي21" حالة الشيخ محمد أبو زهرة في كتمانه لرأيه بخصوص حد رجم الزاني المحصن، والذي لم يصرح به إلا في أواخر حياته"، ذاكرا أن "بعض فقهاء الخليج حدثوه عن قناعتهم التامة بضرورة العمل بالحسابات الفلكية لتحديد الأعياد الدينية مسبقا، لكنهم لا يستطعيون إعلان ذلك في محيطهم العلمي، لأنهم سيخسرون جمهورهم، وستتغير نظرة العلماء حولهم إليهم".
أما بخصوص تغليب جانب التحريم والحظر على الإباحة والندب بدرجاتهما في التعاطي مع المستجدات المعاصرة فأرجعه حنفي إلى عدة أسباب، من أهمها "استقرار العمل بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، أي أننا نحافظ على عدم الوقوع في المحرم حتى وإن أسقطنا الواجب أو ضيعناه، وهي قاعدة تأسست على مبدأ أصولي رجحه الشاطبي ومن وافقه وهي أن دائرة المحظورات والمحرمات أولى بالعناية والتقديم من دائرة الواجبات والمندوبات".
وتابع "لكن الأصوب الذي رجحه عدد من الأصوليين العكس: أي أن فعل الواجب أهم من ترك المحرم، وبالتالي فإن المصلحة مقدم على درء المفسدة، وقد ذكر ابن تيمية أكثر من عشرين دليلا على هذه القاعدة، ثم شرحها تلميذه ابن القيم في عشرات الأدلة الإضافية".
وشدد حنفي في ختام حديثه على أننا "اليوم بحاجة ماسة إلى إيجاد آلية لقياس المفسدة أو المصلحة المتوقعة مآلا لبناء السد أو الفتح عليها، وليس مجرد الاعتماد على حدس الفقيه وتخمينه، واعتبارها الدائرة المحققة لأمن الفقيه من الخطأ، وشيوع ثقافة الاحتياط والتحوط في الفتوى".